موفق محادين*
على مدار تاريخها المعاصر، عاشت الأمة أزماناً وعهوداً متعددة، وكادت تطرق باب التاريخ وهي تشتبك مع الاحتلالات المتنوعة، العثمانية والأوروبية والأميركية، كما مع تجليات هذه الاحتلالات ممثَّلة بالكيان الصهيوني والتبعية والتجزئة والطائفية، ولاسيما الطائفية المسلحة، والفساد والقهر الوطني والسياسي والطبقي.
كما قدمت رموزاً اقتربت من وجدان الأمة وتوقها إلى الوحدة والاستقلال والسيادة والكرامة والعدالة، من محمد علي وعبد الناصر، إلى عناوين المقاومة بكل خلفياتها الأيديولوجية، وكانت فلسطين حاضرة في كل هذا المشهد وشهدائه، من أبناء فلسطين إلى عز الدين القسام (الشيخ السوري القادم من جبلة)، إلى سعيد العاص (القومي السوري القادم من حماة)، إلى كايد مفلح العبيدات (القادم من أرياف الشمال الأردني)، إلى السيد عباس الموسوي وعماد مغنية وسمير قنطار وحزب الله من لبنان، إلى مئات، بل آلاف القادة في طريق فلسطين والقدس.
عقود وعقود من الاشتباك مع طيف واسع من الأعداء الوطنيين والطبقيين، من صهاينة الكيان إلى صهاينة الداخل، ومن رجال الفساد والبنك الدولي والسوق المتوحشة وإهدار الكرامة، إلى قاطعي الرؤوس التكفيريين، من كيانات سايكس بيكو ووعد بلفور إلى محميات النفط والغاز المسال وإرم ذات العماد، من المارينز وقوات التدخل السريع إلى الغلمانية الثقافية وكتّاب التدخل السريع.
تتقدم الأمة خطوة وتتراجع خطوتين، وقد أعياها التاريخ بين الخيبة والرجاء، حتى بلغ بها الأمر ما بلغ من قلق واضطراب وتشوش بين الماء الحق والسراب، فلم تسلم من أقلام الاستخبارات الأميركية والبريطانية والصهيونية والطورانية الجديدة باسم الإسلام، زينوا لها نوراً ليس من نور الله، وأسمعوها أجراساً ليست من أجراس الراعي الصالح، فتاهت مرتين بين الغرانيق الثلاثة.
صحوة دينية مزورة مزّقت الأمة بمشارط أقلام الاستخبارات الأطلسية (سنةً وشيعة، مسلمين ومسيحيين، وقبائل البسوس من فزّان وبرقة إلى الاوراس).
وربيع أسود ينهل من ربيع براغ وكارنيغي وأوكرانيا والثورات الملونة وسادتها اليهود، سوروس، ليفي، ساتلوف، واكرمان.
لكنما التاريخ، كما يقول هيغل، يعصم الأمم الحية عن الزوال ولو بعد حين، وتعود لا محالة في الطوفان العظيم، ولم يكن طوفان القساميين إلا قبساً من هذا الطوفان كما العود الأبدي للصالحين.
هو الحق المبين بين جنوبين من بحر الشام وجنوب ثالث في طريق التوابل والحرير، جنوب لبنان وجنوب فلسطين وجنوب الجزيرة مع اليمنيين، وكم هو قاطع وصعب ريح الجنوب وبريده المكتوب بالنار.
من هذا الجنوب، في لبنان وأرض كنعان، وأرض كهلان وسبأ والمر والعسل والخناجر والقتال، ترنو سورة النجم بلا غرانيق ولا أوهام ولا من يوسوس في صدور الناس.
صحوة لا كصحوة التكفيريين وأسيادهم خلف البحار، وربيع لا يشبه موسم الفوضى الدامي وتحويل الناس إلى حطب في نار الإمبرياليين.
من غزة، صحوة الأمة من بياتها الطويل، تفرك عينيها مرة واثنتين ولا تصدّق صباحها المأمول وقد تنفس أخيراً وكثيراً وطويلاً.
من غزة، ربيع ونيسان طال انتظارهما حتى كادت العتمة تطوي كتاب الأمة وتحيلها على خريف الأيام قبل الأوان.
وكما كل ربيع حقيقي، وصحوات حقيقية، من شرايين الفقراء والمقهورين، كما كل الشهداء على المذبح الذي ارتضاه الحق إسراءً ومعراجاً ومرتقى، أنبياء وأئمة وصالحين، لا يكون العهد الجديد جديداً إلا بالاشتباك والقتال بكرةً وأصيلاً، وغيره زبد في زبد.
من غزة السابع من تشرين المجيد، كما لبنان حزب الله في تموز، وادي الحجير وعيتا الشعب ومارون الراس، وكما أنصار الله في أعالي البحار، بوصلة تتلو كتاب الله وتقرع الأجراس، فتصحح الطريق وتلهم حادي العيس الشجاعة والصبر في الليل البهيم.
لا جبهة أخرى للمقاتلين سوى جبهة فلسطين، كل فلسطين من البحر إلى النهر، ومن الناقورة إلى جحر الديك.
يقول ماو، فيلسوف الفلاحين والثورة المسلحة: "الإمبرياليون بالنسبة إلى التبع والمهزومين قدر الأقدار، وبالنسبة إلى الثوار نمر من ورق". ويبني على ذلك نظريته في التناقضات: قانونان لا ينفصلان، قانون التناقض الأساسي لكل الشعوب مع كل الإمبرياليات، وقانون التناقض الرئيس، حيث تتجلى الإمبرياليات بعدو خاص لكل أمة، وكلاهما لا يحسم بحسن النية والأمنيات، بل بالصراع والاشتباك.
غزة اليوم تدوّن كتابها ونظرياتها في التناقضات بالدم والنار، وتُشيّد من تحت الركام مدرسة للكرامة والبطولة والإقدام.
* نقلا عن :الميادين نت