محمد أ. الحسيني
يزداد الوضع في قطاع غزّة خطورة على وقع العرقلة الإسرائيلية المستمرة في ملف التفاوض، في ما لا يبدو في الأفق أي مؤشر للتوصّل إلى حلّ شامل بسبب تعنّت بنيامين نتنياهو وحكومته الإرهابية. فما تطالب به فصائل المقاومة الفلسطينية وفي مقدّمته وقف دائم لإطلاق النار وعودة السكان إلى مناطقهم يفترض بالضرورة انسحابًا كاملًا لقوات الاحتلال ممّا يتيح المجال للفلسطينيين للعمل على استعادة حياتهم الطبيعية تدريجيًا، حتّى لو كانت هذه الحياة على أطلال الدمار شبه الشامل الذي أحدثته آلة التدمير الصهيونية في أنحاء القطاع كلّه.
حماس في مقابل الناس
وواشنطن الضالعة مباشرة في دعم هذا التعنّت تسعى بالتنسيق مع نتنياهو وبعض العرب إلى فرض حصار جديد يأخذ شكل الدعم الإنساني من خلال بناء ما قيل إنّه ميناء عائم، في ما تختبئ أهداف خبيثة وراء هذا الطرح تستهدف أولًا الالتفاف على الانتصار الذي حققته المقاومة الفلسطينية ميدانيًا واستغلال المعاناة الإنسانية التي يعيشها أهالي القطاع في التأسيس لمعادلة تجعل حركة حماس في قبالة الناس، وتصوير المسألة على أن الحركة هي التي تدفع الأمور باتّجاه التعقيد وتسهم في تجويع الشعب الفلسطيني في القطاع. أما ثانيًا، فإن واشنطن من خلال طرح جو بايدن الخبيث الذي أعلن عنه في خطاب حالة الاتحاد ببناء المرفأ المزعوم، تسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف بعنوان "إنساني" أهمها:
بروباغندا منافقة
أوّلًا: خلق سحابة من الغبار لتحويل الأنظار عن الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الفلسطينيين، وتجميل الصورة البشعة للإدارة الأميركية بعدما عمّت العالم موجات الاحتجاج على دور واشنطن المباشر في دعم ارتكاب المجازر بتغطية "إسرائيل" سياسيًا ومدّها بشحنات غير منقطعة لأسلحة القتل والتدمير.
ثانيًا: استغلال حالة الجوع في ممارسة ضغط على الرأي العام العالمي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، من خلال بروباغندا مدروسة تسعى لترويج رسالة ترفض استمرار الحرب وإنهاء معاناة الفلسطينيين، بالتزامن مع نفاق صهيوني معتاد يصوّر المقاومة الفلسطينية على أنها السبب في استمرار هذه الحرب.
ثالثًا: الدخول مباشرة على خط الانتشار الميداني البحري من ساحل قبرص إلى ساحل غزّة عبر نشر ألف جنديّ أميركي بذريعة تخصصهم في بناء هذا النوع من الجسور، وقدرتهم على تأمين عمليات نقل المساعدات البحرية، مع الإشارة إلى أن الشحنات التي ستصل عبر هذا الجسر ستخضع للتفتيش من قبل السلطات الأميركية والقبرصية كضمان أمني طالبت به حكومة العدو.
أهداف خطيرة
هذا في الشكل المعلن، أما في المضمون الخفي فإن هناك الكثير من المؤشرات التي تشي بوجود أهداف خطيرة تتّخذ من كارثة التجويع الصهيوني للشعب الفلسطيني شمّاعة تعلّق عليها واشنطن مخطّطها الإرهابي، وأبرزها:
أولًا: أعلن البنتاغون أن عملية بناء الميناء والرصيف سوف تستغرق 60 يومًا، دون الإشارة إلى وقف إطلاق النار خلال هذه المدّة، وهذا يعني تصريحًا أميركيًا بيّنًا بأن الحرب والحصار باقيان على قطاع غزّة.
ثانيًا: إن تشييد جسر بحري لنقل المساعدات ينفي أي إمكانية لاستخدام معبر رفح على الحدود مع مصر أو معبر كرم أبو سالم، وهذا يعني بدوره إمعانًا في سياسة الحصار والتجويع، خصوصًا أن بإمكان واشنطن إلزام "إسرائيل" بفتح هذين المعبرين، كما بإلزامها فك الحصار ووقف العدوان أو تجميده لتسهيل مرور المساعدات، مع العلم بأن إيصال المساعدات برًا يبقى "أكثر فعالية" وفق بيان الأم المتحدة، من حيث الكميّة أو الكلفة.
ثالثًا: أين يمكن أن نضع الخطوة الأميركية الخبيثة في ظلّ استمرار التهديد بشن "عمليّة عسكرية" في منطقة رفح و"الانتهاء من القضاء على حركة حماس واسترجاع الجنود الأسرى"، على حد زعم نتنياهو؟ أو أن المساعدات القادمة في البحر ليست مخصّصة سوى للفلسطينيين في المناطق الثانية التي انسحبت منها قوات الاحتلال؟
موارد الطاقة بيت القصيد
إلى جانب ما سبق، توقّف مراقبون عند "مسرحية" إسقاط المساعدات من الجو التي لم يصل منها سوى القليل إلى الشعب الفلسطيني ولم تسدّ جوعًا أو تمنع مجاعة، بل جاءت أقرب إلى "بروفة" إلقاء شحنات عسكرية تعتمدها الجيوش في المعارك لتزويد قطعاتها المحاربة بالعتاد والمواد الغذائية والطبية، وأشار هؤلاء إلى أن "البروفة" الحقيقية المتعلّقة بالجسر البحري ترتبط بتأمين مشروع الممر الاقتصادي – التجاري الذي تأخّر تنفيذه بسبب طوفان الأقصى على خلفية توقّف إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، وهو ما لقي حماسة لافتة من قبل بريطانيا شريكة الولايات المتحدة الأولى في دعم العدوان على فلسطين واليمن؛ ويشدّد المراقبون على ربط هذا الأمر باستئناف "إسرائيل" شق الطريق الذي يفصل شمال غزّة عن باقي مناطق القطاع مع ما يمتاز به من مواصفات تعجل عملية النقل البري من البحر إلى الأراضي المحتلة وبالعكس، مما يؤشر إلى وجود مخطّط أكبر من مجرّد خط مساعدات إنساني بحري لشعب غزّة.
أداة حصار وتهجير
ويضيف المراقبون بعدًا آخر لهذا الجسر يرتبط بالأهداف الإسرائيلية القديمة – المتجدّدة الرامية إلى إفراغ قطاع غزّة من سكّانه، حيث إن نتنياهو يعرقل أي حلّ أو اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة، ويعلن بصراحة أنه ماضٍ في قراره بشنّ عدوان على رفح، بقطع النظر عن احتمال تزامن هذا العدوان مع توسيع دائرة اعتداءاته على لبنان أو الذهاب في "أيام قتالية" على الجبهة الشمالية لدفع حزب الله إلى التراجع عن الحدود، تمهيدًا لعودة المستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة، ولا يستبعد هؤلاء أن يكون هذا الميناء – في حال نفّذ نتنياهو تهديداته الحمقاء – جسرًا لنقل الفلسطينيين إلى خارج قطاع غزّة بواسطة "سفن المساعدات" وتهجيرهم إلى دول عربية أو غير عربية كلاجئين جدد، ومن شأن هذا الأمر ألا يحرج مصر التي تصرّ على إغلاق معبر رفح، وترفض السماح لأي فلسطيني بالعبور إلى أراضيها، وهكذا يتحوّل الميناء إلى أداة حصار جديدة على قطاع غزّة.
إن اللعب على وتر الجوع لتطويع الشعب الفلسطيني وإحكام السيطرة عليه من خلال التقتير بشريان الحياة أمر دنيء وغير بعيد عن سياسة الإدارة الأميركية العوراء التي لا تعترف حتّى اليوم بارتكاب العدوّ لمجازره الشنيعة بحق المدنيين، ولكنه في الوقت نفسه دليل على فشل واشنطن و"تل أبيب" في تحقيق أي إنجاز من شأنه أن يثني المقاومة الفلسطينية عن تحقيق أهدافها، كما يعكس استنفادهما السبل كلّها في ضرب الإرادة الفلسطينية الصامدة وإضعافها.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري