الشهيد هو من شهد الموقف الحق، وسافر من الزيف إلى الحقيقة، فتنازل عن الحضور الزائف للحصول على الحضور الحقيقي، تنازل عن الحضور في عالم الدنيا للوجود في عالم الغيب، حين نظر إلى ذلك بمنظار الحقيقة الكلية، تنازل عن حياته التي ملأها الظالمون ظلما وعتوا وتمردا على الله لكي يحقق للمظلومين حياة أسعد، وعيشا أرغد، واستقامة أوفى، لقد حضر في الموقف الحق الحضورَ القويَّ والفاعلَ بأغلى ما لديه، وهي نفسه وماله، رفعه الله بأن سماه شهيدا، أي حاضرا في الموقف الحق الحضورَ الفاعلَ الكامل، ثم كتب له الحضور والشهود الكامل أيضا في حياة البرزخ، فهو حاضر فيها حي يُرْزَق له أجرُه ونوره، ثم هو أيضا في الآخرة حاضرٌ حضورا كاملا وشاهد وموجود. إن الشهادة التي يبدو صاحبها غائبا عن الوجود الزائف في الدنيا هي في الحقيقة حضورٌ قوي ودائم مع الله ووجودٌ مستمر أبديٌّ في رضوانه تعالى، في الدنيا ثم في الآخرة، وهو جزاء وِفاقٌ كتبه الله لهذا الصنف من الناس، الذين ضحَّوا بوجودهم من أجل وجود الآخرين، وشهدوا مواقف الحق تبارك وتعالى فأبدلهم الله بهذه التضحية بأن جعلهم شاهدين موجودين دائما حاضرين في كل موقف وحياة؛ يقول الله تعالى عنهم: (بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، ويقول عز من قائل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ). إنهم باختراقهم الحُجُب الكثيفة التي تضعها الدنيا وملذاتها وشهواتها ووحلها على أهلها – استطاعوا التحليق في عالم الكمال والجمال والحق، لقد حضروا مقام ربهم،
إن أولئك البسطاء من الناس، والذين لم يسبق للمجتمع ولا لنخبه المثقفة والمتعلمة أن تعرّفوا على كثير منهم، هاهم الآن أكثر قربا إلى الله من آخرين كان يُعْتَقَدُ أنهم الأقرب دائما؛ لأنهم استشعروا الواجب العظيم تجاههم فبادروا إليه، بينما تقاعس آخرون عنه، ولأنهم اجتازوا الاختبار الأصعب للقبول بهم حاضرين في مقام العظماء عند الله، وهو تمني الموت وتمني لقاء الله، ألم يختبر الله أولئك المدعين للقرب منه تعالى بتمني الموت، (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ، (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) .
قرب الشهيد من الله حين طلب الله منهم تمني الموت إنما أراد أن يضرب لهم المثل أن الحبيب يحب لقاء حبيبه، والولي يتمنى الحضور إلى وليه؛ ولهذا لما باع المجاهدون أنفسهم من الله فإنهم إنما أثبتوا عمليا أنهم فعلا الأقرب إلى الله، وأنهم فعلا هم أهل الشوق إليه، وبهذا استطاعوا اجتياز مسافات شاسعة بين الناس وبين ربهم، تاه في هذه المساحات الشاسعة كثير من أهل الصلاح الظاهري وعشاق المعارف والمتساقطون على الطريق. إن الشهادة لمنحة إلهية عظيمة يمنحها الله لأوليائه الذين تاقوا إلى الله وفاضوا عطاءً بأعز وأغلى ما بأيديهم؛ يقول الإمام علي عليه السلام: (إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)؛ من انطلق إلى الجهاد فقد فاز فوزا عظيما، واقترب من الله بشكل أكبر وأقرب،
إن الانطلاقة الجهادية مدرسة كبيرة وهي عملية تغير كبرى في مسار المكلف نحو الله، ولهذا لا نستغرب كثيرا ممن لم يكن يؤبه لهم وقد صاروا من أولياء الله ونجبائه وشهدائه الخالدين بمجرد انطلاقتهم نحو الله الانطلاقة الصادقة. لقد حقق الشهيد لنفسه فوائد عظمى ليس هذا مكان الحديث عنها، ولعل أعظمها وأفضلها أنه حقق في أقل الأحوال إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، وكثيرا ما اجتمعت الحسنييان، وكسب المجتمع نعيم الدنيا والآخرة. آثار حركة الشهداء على مجتمعاتهم أولاً: يصل المجتمع إلى مطلوب الله منه من السعادة الحياتية، والتخلص من الظالمين، وانتصار المظلومين، وكف بأس الذين تكبروا وتجبروا من الكفار المعتدين، وينتصر معنويا بإحساسه بتحقق الإنجاز، وهو ما يعطيه قوة معنوية إضافية تحفزه للاستمرار ولمزيد من البذل والعطاء.
ولأن الجهاد ما شرع إلا لأمر عظيم فتحقُّقُ هذا الأمرِ العظيم مكسبٌ للمجتمع أراده الله تعالى، وإرادة الله تعالى تدور حيث مصالح الأمة، وحاجاتها الفطرية والمباحة. ثانياً: ما انتصرت أمة ولا علا كعبها ونجحت ثورتها وتلألأ نجمها إلا بقوافل من العطاء الكريم، عطاء الأرواح، والله سبحانه وتعالى يكتب النصر لهذه الأمة التي قدمت أفلاذ أكبادها في سبيل الحق، وقد يؤخر الله النصر ليبتلي بعضا من عباده الصالحين، ليمنحهم فرصة العمل الصالح والتحرك الإيجابي الذي يتطلب الشهداء والتضحيات لكي يتحقق النصر الكامل. ثالثا: تقوى حالة الإيمان في المجتمع، فيرضى أقربوه بهذه النتيجة الطيبة والكريمة، ويصبرون، وفي رضاهم وصبرهم درس تربوي يحتاجه المجتمع، لتشتعل في قلوبهم روح المصابرة والمرابطة والمثابرة، وينتصب الشهيد درسا نموذجيا للذين لا يزالون مُرْهَقين بوحل الدنيا فيكون أستاذا لهم يلقنهم مبادئ العزة، ومثالا عمليا يمكنهم من الاحتذاء به، حيث هو السابق وهم اللاحقون، وحينئذ يسهل عليهم الانطلاق إلى الله ومتابعة سيره، ومن مقتضيات الانطلاق إلى الله أن يهيئ النفسيات المترددة والمتشككة للمثول بين يدي الحق مثولا ثابتا صحيحا، لا زيف فيه ولا ريب، فيحبون لقاء الله، وبهذا تتحرك دورة جديدة لمجاهد جديد أو لمجاهدين جدد، قد يكون منهم شهيد جديد، أو شهداء جدد، وعند كل تضحيات وعطاءات تتحقق عطاءات الله ومنحه الكريمة وآياته الجزيلة.
رابعا: يعطي الشهداء لمجتمعهم درسا في أهمية الارتباط بالله، والانطلاقة الصادقة إليه، وأن تتوجه القلوب والمشاعر والأرواح إلى خالقها وبارئها، وأن ترقبه في كل وقت وكل حين، وحين تمر بها حالات الشدة فتستعين بالله، وحالات الرخاء فتشكر الله، فإنها تعوِّدها وتمرِّنها على حالة الارتباط الوثيق بالله، وتعزيز حالة التقوى التي تجعل الإنسان متخفِّفا من كل الأوهام والقيود والمثبطات ليتوجه إلى الله وحده لا شريك له، وهذا باب عظيم وينبوعٌ ثرٌّ يمد المجتمع بالمبادئ الدينية، والمعالي الروحية، والقيم الإنسانية والأخلاقية التي تحلِّق بأبنائه عن الطباع الحيوانية، وترتفع به عن الملذات الشهوانية، ليجد نفسه في مجتمع راق، وأمة حية سامية، تتعالى على الأقذار والأوساخ، وتعلو على الشهوانيات فيحيى بهم الدين، وتتهذب فيهم الطباع. خامسا: يخلق الشهيد بخاتمته التضحوية وعيا في أمته ومجتمعه بالقضية التي ناضل واستُشْهِد من أجلها، وأنها قضية تستحق كل ثمن، وليس هناك أغلى من أن يقدِّم الإنسانُ نفسَه من أجلها، وحينها سيتلقَّى الوعيُ المجتمعيُّ أن أمرا مهما يجب الالتفاف حوله، والتحرك من أجله؛ ولهذا كتبت الحياة الدائمة لتلك القضايا التي أريقت حولها الدماء، وتدفقت من أجلها الأرواح؛ ولما ثار الإمام الحسين عليه السلام وحفيده الإمام زيد عليه السلام على الطغاة في عصرهما وكان الإسلام قد أصبح جسدا لا روح فيه، وأصبح مجرد طقوس والتزامات سطحية لا جوهر لها، فأعاد دم الإمامين الشهيدين روحية دين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلم المجتمع بذاته أن هناك مبادئ وأخلاقا وقيما وعبادات ومعاملات يجب التنبه لها والعودة إليها وأنها تستحق أغلى أنواع البذل والعطاء، إنها الدين، والأخلاق، والقيم، التي كان الطغاة قد عقدوا العزم على تجاهلها ونسيانها، وكان المجتمع في مجمله قد انساق إلى ما يريدون لولا تحركات هؤلاء الشهداء المجددين للدين وقيمه وتعاليمه. سادسا: يتأهل المجتمع باكتساب روحية الشهداء، التي في جوهرها تعني فناء الذات الفردانية من أجل الغاية النبيلة الكلية، تعني العطاء بلا حدود، العطاء الشخصي للمصلحة الكلية، فإذا كان الطغيان والفساد والظلم يعني الاستئثار والتعدي والتجاوز وحب الذات على حساب المجموع، فإن الشهيد يقدِّم درسا عمليا للأمة أن بإمكانها أن تعيش حياة أخرى أجمل وأفضل، وأكثر لذة وسعادة، حيث يقدم لها درسا عمليا يغاير تماما ما يفعله الطغاة من استئثار وظلم، وهذا الدرس هو بتقديم خير العطاء، عطاء الأرواح. وحين يكتسب المجتمع هذه الروحية العالية التي تقدِّس معنى العطاء والإيثار والمبادرة، فإنه يكون قد أغلق على نفسه أوسع أبواب الطمع والتناحر والشقاق والاختلاف، أوسع الأبواب التي كانت من أهم أسباب شقاء الإنسان وعصيانه لله، سيكون هذا المجتمع مجتمعا أقرب إلى العطاء منه إلى الأخذ، أقرب إلى الإيثار منه إلى الاستئثار، وهذا ما عجزت عن تحقيقه أفضل الكليات التعليمية، وأقوى القادة نفوذا وتأثيرا في مجتمعاتهم؛ لأنهم ببساطة يفتقدون إلى دروس الشهداء العطائية. سابعا: وحينئذ يتربّى ويتعوّد المجتمع على الاستغناء عن الكماليات الاقتصادية والمعيشية، والتي قد تكون سببا مهما من أسباب الظلم والسرقة والتعدي والتجاوز، فإذا اكتسب المجتمع روحية الشهادة التي تعني العطاء والزهد والقناعة والإيثار، فإنه سيساهم بشكل كبير في غياب حدة الطمع، والبخل، والتهور، والاستئثار، وسيترفع عن الكماليات التي قد تدفع به نحو الفساد والسرقة والاستحواذ على الأموال غير المشروعة.
ثامنا: هذا المجتمع الذي أصبح الشهداء فيه هم الفئة العظيمة التي تستحق التعظيم، ستعلو همته، وتكبر أهدافه، وتسمو تحركاته، بسمو الأهداف القرآنية، وعلو المعالي الإنسانية، وحينئذ سيتحول المجتمع إلى مجتمع مثالي، سيكون مرؤوسا بالضمير الحي، ومحكوما بوزراء القيم، وإدارات الأخلاق، إنه المجتمع الذي يتحرك كما يريد الله برغبة ذاتية منطلقة من هذه المعاني العظيمة، المجتمع المحكوم بالمبادئ والقيم الإسلامية والإنسانية أكثر من السلطات الإلزامية، والضغوطات العرفية والمجتمعية. تاسعا: هذا المجتمع الذي أصبح له في كل بيت شهيد يقدسه ويحترم جهده، ويقدس غايته وخاتمته، فإنه سيهيء الكثير والكثير خلفه للتخلق بذات الأخلاق، والتطبع بنفس الطباع، والتحرك في نفس المسلك، وحينئذ تتحقق فيهم أقوى قيم الشهداء، وأفضلها، وهو أنهم لا يرهبون الموت، ولا يخافون الظالمين، ويكرهون العيش مع المستكبرين، وأي شعب أو أمة أو مجتمع بات لا يرهب الموت، ولا يخافه، لهو شعب حر عزيز كريم، لا تتخطاه أوامر الانحراف، ولا تتجاوزه رغبات الفاجرين، ولا تؤثر فيه تهديدات الطغاة المستبدين.
عاشرا: سيتعلم المجتمع من الشهيد الذي بات معلِّما للعالَمين، وأصبح مثالا للمهتدين، أن التضحية والاستبسال والفداء دروس عظيمة، دروس هي التي تحيي الأمم، وتنتزع حقوقها، وتكتب أمجادها، وتحقق غاياتها. وهل هناك أعظم من (العزة) الإيمانية التي علت روحُ الشهيد مضمَّخةً بعطرها، مسكونة بنقائها وإخلاصها، العزة التي تنتصر لله بتحقيق العدل والكرامة والمجد، حين ترتفع بالعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، العزة التي يقول الله عنها: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) ، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، وهل هناك بلاء أصيبت به أمة الإسلام اليوم إلا بلاء ارتهان قادتها وزعمائها إلى الدول العظمى، فابتغوا العزة عند أمريكا وإسرائيل، والسبب هو انخلاعهم عن ثقافة القرآن وثقافة الجهاد وثقافة الشهادة، فأحبوا الدنيا، وتعلقوا بأسبابها على حساب الكرامة والالتزام بالدين ومبادئه، غير أن روح الشهيد وهي تعلو إلى الله، وتقدس عزته وحده التي منحها للمتقين من عباده، وتبحث عنها، فإنما تكون منارا منيرا للأحرار تدلهم على الوِجهة الصحيحة نحو العزة الحقيقية، العزة الكاملة، العزة التي تعلو على كلِّ متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، وشعب يعتز بالله لهو شعب عظيم ومنتصر ومرهوب الجانب.
الحادي عشر: هذا الشعب الذي وصل إلى هذا الحد من العزة والمنَعَة وإباء الضيم وتقديس الحرية الحقيقية وكره الظلم والفسوق والعصيان، وعُرِف عن رجاله أنهم يقدِّمون الشهداء، تلو الشهداء، ولا يخضعون، أو يُسْتَضامون، فإنه شعبٌ لا يقبل الهزيمة، ولا تجوز عليه أنواع التهديد، ولا يخاف من الوعيد، ويشق طريقه نحو المجد والكرامة والقوة أكثر وأكثر. هذا المجتمع الذي قدم الشهداء عمليا وسرت روح الشهادة في رجاله ونسائه، وأصبح الشهداء فيهم منارات التقى، وأعلام المجد، وهامات الفخر، وأصبح سواء لديهم أن ينتصروا في المعارك ويظفروا ماديا فيها، أو تحلق أرواحهم إلى الملأ الأعلى، هؤلاء لا يمكن لدولة أو لحلف أو لقوة أن تهزمهم، أو تبتزهم، مهما عظمت قوتها، وعلا شأنها، وتطوّر سلاحها، أو كثرت أموالها. إن صخرة الشعوب العاتية التي انكسر عندها الغزاة وتحطمت آمالهم وتبعثرت خططهم، هي الروحية التي تسود تلك الشعوب الحرة المجاهدة، فما كان منها عاشقا للشهادة مقدِسا لها، ممجِّدا لأهلها، مهتما بذويها، محتَرِما لمختاريها، فإنه شعبٌ يصبح النَّيْل منه أبعدَ من النيل من الجوزاء، والاقتراب منه أصعب من الترقي في درجات السماء، وعند هذا الحد فشل الطغاة والظالمون من تجاوز هذه النوعية من الشعوب، وعادوا مثخنين بفشلهم، ومثقلين بهزائمهم، بذاكرة مؤلمة، وذكريات كابوسية.
إنه سلاح فعّال وعظيم يكون أقوى من كل أنواع الأسلحة، وأكثر حداثة من كل حديثها، وأكثر فتكا من أشدها فتكا وتدميرا. ليس هناك أخطر على الشعوب من حالة الخوف والقلق والضعف والتهاون والانخذال والتراجع وحب الدنيا والبقاء إذا تمكنت منها؛ لأنها تجعلها لقمة سائغة في أفواه الأنجاس، ومطمعا للمتربصين الطامعين. هذه الروحية الشهدائية هي التي تجعل أفراد هذا المجتمع يتحركون بشجاعة عالية، كما نلاحظ ما تميز به مجاهدو الشعب اليمني اليوم عن جيش السعوديين ومرتزقتهم الفرارين كما تعرضه شاشات التلفزة، إن هذه هي الروحية التي تملأ جوانح مجاهدينا الأبطال، ويفتقد إليها أفرادهم الأذلاء وقاداتهم الأنذال، فهم رغم ما حشدوا من قوات، وما لديهم من إمكانات مالية، وخطط حربية، وعدة وعتاد، وأحدث الطائرات وأقوى البوارج، رغم كل ذلك إلا أنهم فشلوا فشلا ذريعا شهد العالم عليه، وبات المقاتل اليمني مرهوب الجانب، مهاب الحركة، يثير العجب، ويملأ الدنيا شموخا وعزة، ما ذلك إلا لأنهم يمتلكون الروحية العالية، فتوثقهم الكاميرات وهم يتقدمون بأسلحة خفيفة تحت مرأى أفتك وأقوى الطائرات والبوارج والصواريخ والقنابل، هذه الروحية هي التي اقتحمت بهم أهوال المجد، وداست بأرجهم معاقل وحصون ومعسكرات الأعداء، فقاسوها أشد وأسد أنواع المقاساة، وكسبوا الحرب وفازوا بالرهان. الثاني عشر: هذا المجتمع الذي أعطاه الشهداءُ هذه القيمةَ وهذه الروحية واكتسبها منهم عن جدارة، فأصبح يتمنى الموت ويرجو لقاء الله – لا يمكن أن يتسلل إليه الإحباط، أو يستحوذ عليه الملل، أو يصاب بالخيبة، مهما أصيب من آلام، ونال من كلوم وجروح؛ لأنه يريد لقاء الله من أي الأبواب التي توصله إليه تعالى، إنْ من باب الشهادة أو من باب الانتصار وتحقيق المراد الإلهي في أرض التكليف وساحة الاختبار.
إنهم لا ينحبطون ولا يمَلُّون؛ لأنهم إن انتصروا ماديا وهزموا العدو فذلك خيرٌ عجّله الله إليهم، ونصرٌ سريع زودهم به، وإن غادروا التكليف شهداءَ فتلك أمنياتهم الذهبية، وسعاداتهم الحقيقية، وجاء غيرُهم ليسدوا المكان الذي تركوه أضعافا مضاعفة، فمن أين يمكن أن يتسلل إليهم إحباط أو ملل أو قلق. الثالث عشر: إن هؤلاء الشهداء حجة الله القائمة على أولئك البشر القاعدين، الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، واغتال أفكارَهم وعقولَهم ضعفُ البصيرة، أو قلة الوعي، أو التخبُّط في الأولويات، فذهبوا يفتشون لأنفسهم عن الأعذار، ويقمشون التعلات، ونسوا أن العدو سوف لن يرحمهم، ولن يرأف بهم، فضخّم الشيطان أخطاء المنطلقين بأكثر من حجمها، ويصورهم بغير الصورة التي هم عليها، ليظلوا عمرَهم يحاولون إسكات ضميرهم المؤنِّب بتعلات وأعذار ومسوغات لا تسمن ولا تغني من جوع. هؤلاء الشهداء هم من سيحرك الضمير الذي يعلم الله أن فيه بقية خير، وومضة رشد، هم من سيصدِم من لا يزال في غيبوبة الأعذار المختلقة أو غير الكافية للقعود والتخلف، فيتيسر له التغيير الفكري المطلوب منه الذي يؤدي إلى التغيير في الموقف، فهذا الشهيد الذي هو أقل منهم معرفة أو سابقة في الخير لمّا سارع إلى مرضاة الله فضّله الله على كثيرٍ من القاعدين أجرا عظيما، فنال رضوان الله، وسبق إلى جنته، بينما أخطأه أولئك الذين ختم الله لهم بالقعود والانخذال وأركسهم بالركون إلى غياهب الغباء الديني والسياسي، والذي لن يفيد المجتمع إلا مزيدا من الشقاء والعنت.
وأخيرا: أخبر الله أن الشهداء (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، إن الله يعطي الشهداء المنطلقين إليه بشارة بأن أحبابهم وزملاءهم من المجاهدين الذين لا زالوا يرابطون في دنيا التكليف – يمضون في طريق الصواب، ويسلكون في جادة الخير. لذا فليكن المنطلقون إلى الله في ثقة أن مسلكهم مسلك هاد وراشد، وأن منهجهم الذي مضى عليه الشهداء من قبلهم منهج رضيه الله؛ وأمارة رضاه أنه اختار أولياءهم إليه، ليحوزوا البشارة بأحقية المسلك، وصوابية التحرك، وهذا أدعى للانطلاق، وأكثر تحفيزا للمتأخرين والمتخلفين في الازدياد في التحرك والجهاد، وما أعظم أن يسير المؤمن المجاهد في طريق سلكها أولياء الله الصالحون، وتتالى على اجتيازها من ختم الله لهم بالحسنى.