تمتلك جماعة الإخوان قاعدة شعبية عريضة في البلاد المصرية، والأسباب في ذلك كثيرة أهمها أن تنظيمهم هو الوحيد ذو توجه ديني وسياسي في آن واحد، حيث تسعى الحكومات المتعاقبة على حكم مصر على فصل الدين عن الدولة، بل وعن الحياة العامة، وتريده أن يبقى معزولاً عن الواقع، أو موائماً للتوجهات الرسمية، وقد نجحت إلى حدٍ كبير في تطويع أهم مؤسسة دينية تاريخية في البلاد، وهي مشيخة الأزهر، التي تعجز أن تأتي بموقف لا ينسجم مع القرار السياسي، وتسعى دوماً إلى إضافة شرعية دينية لحكام مصر، أنى كانت توجهاتهم.
ومن الأسباب التي أدت إلى هيمنة الإخوان على المشهد الديني في مصر، أنها الجماعة التي لا تزال تؤمن بانتماء البلاد إلى العالم الإسلامي الكبير، وترفض مشروع الانغلاق الذي يروج لمصر أخرى بثقافة فرعونية بعيداً عن محيطها العربي والإسلامي.
وقد ظلت الجماعة محتكرةً للإسلام السياسي لنحو ثمانين عاماً، وكان من المفترض أنها تمتلك خبرة سياسية تؤهلها ليس فقط لحكم مصر، بل وتكون قوةً إقليمية مؤثرة في العالمين العربي والإسلامي، والمشاركة في تحرير الأراضي العربية من كافة أشكال الاحتلال، بما فيها تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.
ولكن للأسف، اختارت جماعة الإخوان منحىً سياسياً مخالفاً لما تقتضيه المرحلة الراهنة، وذهبت إلى افتعال صراعات مسلحة في العالم العربي لخدمة توجهات أخرى خارج القضية المفصلية للأمة، وهي القضية الفلسطينية.
فعلى سبيل المثال، اختارت الجماعة إعلان الجهاد في سورية بدلاً عن الجهاد في فلسطين، وسخرت وجودها المؤقت في حكم مصر لصالح الكيان الصهيوني بدلاً من الوقوف بوجهه، وتبع ذلك تغيير شامل حتى في الشعارات التي كان يرددها شباب التنظيم في المناسبات العامة، وتحولت بوصلة العداء إلى الداخل العربي بعد أن كانت في نحر العدو التاريخي للأمة الإسلامية.
واليوم، ومع اندلاع عملية طوفان الأقصى المباركة في غزة، وما تلاها من حملة إبادة صهيونية ضد سكان القطاع، تقف جماعة الإخوان موقف المتفرج من تلك الأحداث، وكأنها امتداد للنظام المصري المعروف بعمالته لـ"إسرائيل"، وكان بإمكانها تغيير الكثير في الواقع المصري، لو أنها التزمت الصدق في المواقف والشعارات.
فالإخوان، منذ يوليو 2013، يشنون حملةً شعواء ضد عبدالفتاح السيسي، الجنرال الذي أقصاهم من السلطة، ويستغلون كل حدث وكل مناسبة للتشهير به، وبنظامه القمعي، وبجيشه الذي يعتبرونه وسيلةً لحماية الطاغية وقمع الشعب.
وكان البدهي بهم أن يثوروا اليوم ضده، مستغلين الحرج الذي يعاني منه السيسي بسبب تواطؤه مع "إسرائيل"، حتى لو كلف الأمر إعلان الجهاد في سبيل الله ضده، وسيلاقي تحركهم تضامناً واسعاً في داخل مصر وخارجها، وسينتهي بإسقاط النظام العميل، أو على الأقل إجباره على التضامن مع غزة، والسماح بدخول حاجة القطاع من المواد الإغاثية.
والخيارات أمامهم كثيرة، يكفي أن يستنسخوا مخططهم في سورية، حيث تمكنوا هناك من تدمير جزء كبير من الجيش السوري بذريعة أنه يمثل نظاماً كافراً، وأنه يعادي الإسلام والمسلمين، رغم أن ذلك النظام على الأقل يدعم المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح، وينحاز للقضية الفلسطينية ويرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني.
أما نظام السيسي، فقد أتى بكل القبائح التي أتى بها الحكام العرب مجتمعين، ويكفي أنه صهيوني في العلن، وأن جيشه ينتشر على حدود غزة لحماية "إسرائيل"، ويمنع دخول المساعدات الإنسانية لسكانها المحاصرين منذ أكثر من نصف عام، علاوةً على أنه نظامٌ قمعي متسلط، ولا يؤمن بأن للشعب الحق في الحرية والحياة الكريمة.
فما الداعي -ياترى- لكل هذا الجمود والإعراض عن غزة؟
ثمَّة مبرر واحد لكل ذلك، وهو أن جماعة الإخوان لا تزال على عهدها السابق في خدمة الاحتلال البريطاني، وما تفرع عنه من نكبات على الأمة والإسلامية.
ويشهد على ذلك أنك لا ترى الإخوان يتحركون إلا حيث تريد لهم القوى الاستعمارية، كسورية واليمن وليبيا، وعندما يتعلق الأمر بفلسطين، أعرضوا ونأوا بجانبهم، وكأن القضية لا تعنيهم في ذلك عبرة كبرى لمن لا يزال يحترم تلك الجماعة، ويؤمن بمظلوميتها.
فغزة اليوم فرزت العالم بين مؤيد صريح أو عدوٍ صريح، ويكفي أن نميّز العدو بتجاهله للقضية، رغم أن لديه القوة على نصرتها، بدليل ما نراه من تحركاتهم العسكرية في العالم العربي كافة حتى إذا أتوا على فلسطين التزموا بما التزمت به السعودية من مواقف سياسية، ولا غرابة في ذلك، فالمخرج هنا وهناك هو البريطاني الراعي الأول للصهيونية العالمية.
*نقلا عن : السياسية