مواقفُ خزيٍ سجَّلَها القرآنُ الكريم، رُوِيت ولا تزالُ تُروى للأجيال، جيلاً بعد جيل، رواها ولا يزال يرويها من ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ مَن هو ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ ولأنه كذلك، وفوق ذلك، فتلك المواقف الحية الواقعية، باقية متجذرة ومتجددة مع امتداد الزمان واتساع المكان.
فمن تخلفوا في زمن رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، عن الاستجابة لأمر الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى"، ولدعوة رسوله الكريم، إنما تخلَّفوا عن نصرة دين الله، ونصرة المستضعفين في الأرض، وهؤلاء لا يختلف حالهم عن حال غيرهم من المخلَّفين من الأعراب في المراحل التالية، فمن خذلوا الإمام عليًّا والحسنَ والحسين، ومن تخلَّفوا عن نصرة أولياء الله -سَلَامُ اللهِ عَلَيْهِ-مُ أَجْمَعِيْنَ- في الزمن اللاحق، إنما خذلوا دين الله، وعصوا اللهَ "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى"، ومكَّنوا -بتخلفهم وتخاذُلِهم- أعداءَ الله من رقاب عباد الله.
وكان للمخلفين من الأعراب في كُـلّ زمان أعذارُهم، التي تكرّرت بتكرار حالات التخلف والمعصية لله تعالى، وعدم الاستجابة لأمره "جل وعلا"، ولا تزال صفةُ الخوالف لصيقةً بهم من زمن رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ" إلى زماننا هذا؛ فهي تنطبق على كُـلّ من تخلف وقت النفير في سبيل الله، ولم تتغير دلالة خطاب الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى"، ولم تتبدل، فذلك الخطاب الذي خالفه المخلفون في زمن رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، هو ذاته الخطاب الذي خالفه المخلفون في زمن الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين "عَلَيْهِمُ السَّلَامُ"، ومَن بعدهم من أولياء الله في الزمن اللاحق، وهو الخطاب ذاته في زماننا هذا، وإلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.
والمخلفون من الأعراب في زمن رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، كما حكى الله حالهم في ذلك الزمان، منهم مَن حاول الاعتذارُ متذرِّعًا بالضعف وقلة الحيلة، ومنهم من تذرع بالانشغال بالمال والعيال، ومنهم من ربط تحَرّكه بالمكاسب الدنيوية، ومنهم من تنصل تماماً، ولم يفكر حتى في الاعتذار، بل حرّض الآخرين على القعود خشية أن يصيبهم الحر، واستحقوا جميعاً من الله تعالى التقريع والتوبيخ في الدنيا والوعيد بالعذاب في الآخرة، قال تعالى: ﴿وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
فمن جاءوا إلى رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ" معتذرين عن النفير العام، أنْبَأَهُ اللهُ بأعذارهم، وأغناه الله عن خروجهم، ومن قعدوا ولم يأتوا للاعتذار توعَّدهم اللهُ "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى" بالعذاب؛ جزاءَ تكذيبهم ومعصيتهم لله ولرسوله، أما من تذرعوا في اعتذارهم بالانشغال بالمال والأهلين، فقد فضحهم الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى" بقوله: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أموالنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾.
وفضح الله تعالى أَيْـضاً من كان من المخلفين هَمُّه المكاسبُ الدنيوية فجسّد الله "سبحانَه وتعالى" حالهم، وللعبرة سجل في آياته للأجيال مقالهم، فقال عز من قائل: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ وهؤلاء تعرضوا للتوبيخ والتقريع والحرمان، والوصم بعدم الفهم ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ جزاء معصيتهم لله وتخلفهم عن رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، والذين تنصلوا من المخلفين، وثبَّطوا وحرضوا غيرهم على عدم النفير واللحاق برَكْبِ رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"؛ بذريعة شدة الحر توعدهم الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى" بحَــرٍّ أشدَّ وهو حر نار جهنم ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا، لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾.
وقد مثل أُولئك المخلفون من الأعراب مشكلةً داخلية لرسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، حرص أشدَّ الحرص على إقامة الحجّـة عليهم؛ ليتجنبوا عذاب الله الأليم، وخلّد الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى" حرصَ رسوله الكريم على المخلفين من أمته، وتذكيره لهم بأهميّة النهوض بواجباتهم في مواجهة أعداء الله وأعداء الأُمَّــة، وتحذيرهم من عواقب القعود والتنصل عما أوجبه الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى"، وتجسَّدت هذه العواقب في الخزي في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة.
وسار أولياء الله على النهج ذاته، الذي سار عليه رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، القائم على التنبيه والتذكير والتحذير للأُمَّـة، من زمن الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ- وحتى زماننا هذا، وكأن التذكير والتنبيه والتحذير الذي أورده القرآن الكريم على لسان رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ" في زمنه، ما نزل إلا في أُمَّـة هذا الزمان، قال تعالى: ﴿قل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَو يُسْلِمُونَ، فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
وإذا كان ذلك يمثل جانباً من حال المخلَّفين من الأعراب في زمن رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، كما هو واضح وجلي من آيات الكتاب الحكيم القرآن الكريم، الذي يعد شاهداً حياً على واقع حال المخلفين من الأعراب في كُـلّ زمان ومكان؛ فالواضح أن واقعهم وحالهم اليوم أسوأ مما كان عليه أسلافهم، اليوم هم أكثر جرأة على معصية الله، وأقل تأدباً مما كان عليه المخلفون السابقون، الذين لم يدخروا وسعاً في اللجوء إلى كُـلّ ما هو متاح لهم من الأعذار والذرائع؛ لتبرير تخلفهم عن رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـهُ وَسَلَّمَ"، ومعصيتهم لأمر الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى".
والمخلفون من الأعراب اليوم، ورغم أن معطيات الواقع تفرض عليهم واجبَ النصرة لإخوانهم؛ استجابة لأمر الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى" ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ إلا أنهم مع ذلك لا يقيمون لأمر الله أدنى اعتبار، ولا يعيرون صرخات الأُمهات الثكالى، وفزع الأطفال واستغاثات الطاعنين في السن، وأنين الجرحى أيَّ اهتمام، رغم أن مأساة اليوم تفوق في فظاعتها سابقاتها بكل الاعتبارات.
ولم يقف خوالفُ العصر عند ما سبق، بل إنهم تمادوا أيَّما تمادٍ في جراتهم ومعصيتهم لله ولرسوله إلى حَــدِّ إسنادهم ومناصرتهم للصهاينة المجرمين، ضد إخوانهم المستضعفين المظلومين من أبناء الشعب الفلسطيني؛ فمن أُولئك الأعراب من ساند الصهاينة بصريح المواقف والدعم المالي، العسكري، ومنهم من تغاضى وغضَّ الطرف عن جريمة الإبادة، وصرف الأنظار عنها؛ لتنصرفَ الشعوب عن حقيقة ما يجري في قطاع غزة، وكان كبتُ الشعوب وقمعُها من ضمن وسائل الإسناد للصهاينة المجرمين وشركائهم المستعمرين الغربيين.
ومن مظاهر مناصرة خوالف الأعراب للكيان الصهيوني وشركائه في جريمة الإبادة، توفيرُ الطرق البديلة لتسهيل وصول مختلف الاحتياجات والإمدَادات اللازمة لاستقرار الوضع الداخلي للكيان الصهيوني، الذي بدأ بالاهتزاز والاضطراب؛ نتيجة للإجراءات الضاغطة، التي فرضها شعبنا اليمني على السفن التجارية الصهيونية أَو تلك المتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلّة، ولم يكتفِ خوالفُ العصر بمعصية الله "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى" ومخالفة صريح أمره بنصرة إخوانهم، الذين استنصروهم في الدين، بل إنهم -فوق معصيتهم وخِذلانهم وتثبيطهم للشعوب العربية عن أداء واجبها في النصرة- ناصروا المجرمين بمختلف الوسائل، وضمنها التضليلُ للشعوب وإلهاؤها وصرفُها عن مظلومية الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بحفلات الرقص والطرب، ومارثونات سباق الكلاب، ومهرجانات ومزادات الصقور والتيوس والإبل، وكلّ التفاهات التي شغلوا بها أوقاتَ الشعوب ليلاً ونهاراً، وأهل غزة يمزَّقون أشلاءً بقنابل قوى الإجرام الاستعمارية الصهيوغربية، ويتضورون جوعاً، ويموتون عطشاً؛ بفعل الحصار الخانق الذي فرضه المجرمون على القطاع!
وليس في وَصْفِ المخلَّفين من الأعراب في زماننا هذا أيةُ مبالغة؛ فأغلبُ الأنظمة العربية تُقيمُ روابطَ بمستويات مختلفة مع دولة الكيان الصهيوني، وتقيم علاقاتٍ كاملةً مع قوى الإجرام الاستعمارية الصهيوغربية شريك الكيان المجرم في جريمة الإبادة، وعلى مدى تسعة أشهر من الإجرام، الذي لم يسبق له في تاريخ البشرية مثيلٌ، لم يتجرَّأْ نظامٌ من الأنظمة العربية المرتبطة بعلاقات متعددة الجوانب مع الكيان المجرم على وقف جانب من جوانبها، وكذلك الحال بالنسبة للأنظمة الاستعمارية الشريكة في الجريمة، لم يتجرأ أيُّ نظام عربي على مُجَـرّد التلويح باتِّخاذ موقف عملي تجاه قطع العلاقات مع تلك القوى الإجرامية!
ويبدو أنه من غير المتوقع حدوثُ موقف يسجَّلُ لصالح الشعب الفلسطيني، من جانب خوالف العصر تجاه الكيان الصهيوني المجرم وشركائه، بل الواضح أن مواقفَ الخوالف تتجه نحو مزيد من الإسناد والتغطية، بل والاشتراك في جريمة الإبادة بأدوار مختلفة ليس أقلَّها الوقوفُ في مواجهة الإجراءات الضاغطة المفروضة ضد كيان الإجرام وشركائه من جانب شعبنا والمجاهدين في محور المقاومة، وكذلك التآمر مع القوى الاستعمارية؛ لإحداث اختلالات داخلية في الجانب الاقتصادي، تؤثر على المواقف المساندة لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ وهو ما يمكن القول معه: إن خوالفَ العصر قد تجاوزوا أسلافهم في السوء بمراحلَ طويلة ومديات بعيدة.
وإذا كان أسلافُ خوالفِ العصر قد تعرَّضوا للتوبيخ والتقريع والفضح، الذي وصمهم به اللهُ "سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى" جزاءً لمعصيتهم؛ فَــإنَّ الواجبَ اليوم على جميع النخب العربية، إبرازُ ذلك وتذكيرُ الأجيال بالمواقف المخزية لخوالف ذلك الزمان، فَــإنَّ تلك المواقفَ تنطبق بشكلٍ أكبرَ وأخزى على خوالف هذا الزمان، والواجب فضحُهم أمام الشعوب؛ لعلها تستيقظُ من سباتها، وتنفضُ غبارَ الذل والمهانة عن كاهلها، وتبادرُ إلى الاستجابة لربها، بنصرة من أمرها بنصرتهم، ومواجهة الأعداء؛ حتى لا يقعَ الجميعُ تحت طائلة قول الله "جَلَّ وَعَلَا": ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأرض أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ﴾ صدق الله العلي العظيم.