نشأت منظَّمةُ "الأمم المتحدّدة" على أنقاضِ "عُصْبَةِ الأمم"، التي انهارت نتيجةً لفشلها في منع الدولِ الأعضاء فيها من الاحتكامِ للقوة المسلحة في علاقاتها الدولية،
على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ميثاقها عدداً من المبادئ، التي من شأنها منعُ تعرُّض الإنسانية للآلام والمآسي مرةً أُخرى.
وكان من أبرز المبادئ المكرَّسة في هذا الجانب، مبدأُ امتناع الدول الأعضاء عن التهديد باستعمال القوة المسلحة، أَو استخدامها بوصفها وسيلةً لحسم المنازعات الدولية، والإدارة الأمريكية في مقدمة الدول التي تعهَّدت، وَفْقًا لديباجة الميثاق بالالتزام بما ورد فيه من مبادئ تحفظ السلم والأمن الدولي، وجاء في ذلك الالتزام (وأن نكفلَ بقبولنا مبادئَ معينة، ورسم الخطط اللازمة لها، ألا نستخدمَ القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة).
والمتتبع لسلوك الإدارة الأمريكية خلال العقود الماضية، اللاحقة لتأسيس منظمة الأمم المتحدة، يجد أن ذلك السلوكَ منتهك لكل المبادئ الواردة في ميثاق المنظمة الدولية، وأهم هذه المبادئ المبدأ المتعلق بامتناع الدول عن التهديد باستعمال القوة المسلحة في العلاقات الدولية، ولا يتسع المقام هنا لحصر انتهاكات الإدارة الأمريكية لهذا المبدأ، ويكفي أن نؤكّـد هنا أن الإدارة الأمريكية قد جعلت الأصل في تعاملها الدولي، هو التهديد باستعمال القوة العسكرية أَو استخدامها فعلياً ضد سلامة أراضي الدول الأُخرى وسيادتها واستقلالها، والاستثناءُ هو الامتناعُ عن استخدام القوة، عكس ما هو منصوصٌ عليه في الفقرة الرابعة من الماد (2) من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، التي نصت على أن (يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أَو استخدامها ضد سلامة الأراضي أَو الاستقلال السياسي لأية دولة أَو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد "الأمم المتحدة").
ولم تُعِرِ الإدارةُ الأمريكية هذا المبدأَ النظري العام أيَّ اعتبار، رغم أنه نص بكل وضوح على أن يمتنعَ أعضاءُ المنظمة الدولية (جميعًا) التي عبّر عنها النص "بالهيئة" وهو ما يعني أن الامتناعَ عن التهديد باستعمال القوة في العلاقات الدولية ممنوعٌ على جميع الدول كبيرها وصغيرها، ورغم أن الإدارة الأمريكية من أوائل الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة، وضمنه هذا المبدأ وغيره من المبادئ، التي التزمت بها الدول الأعضاء في علاقاتها الدولية، إلا أنها مع كُـلّ ذلك ساد علاقة الإدارة الأمريكية بغيرها من الدول الصغيرة التهديد باستعمال القوة، بل إنها استخدمت القوةَ فعلياً، ضد سلامة أراضي الدول واستقلالها السياسي، في انتهاك صارخ للمقاصد التي أُنشئتْ مِن أجلِها منظمة الأمم المتحدة، المتمثلة في إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب، والعمل على تكريس الحقوق الأَسَاسية للإنسان؛ إعلاءً لشأنه، ولكرامته الإنسانية، وتجسيد مبدأ المساواة بين الشعوب والأمم صغيرها وكبيرها، وتحقيق العدالة، والرقي الاجتماعي، واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات والاتّفاقيات الدولية.
ولم يتغير سلوك الإدارة الأمريكية خلال العقود الماضية في تعاطيها مع التزاماتها الدولية، سواء الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، أَو في الاتّفاقيات والمعاهدات الدولية، أَو في قرارات الجمعية العامة، ومجلس الأمن الدولي، فكل هذه الوثائق كانت عُرضةً للانتهاك، وقد ترتب على سلوك الإدارة الأمريكية -المنتهِك لمبدأ الامتناع عن التهديد باستعمال القوة، واستخدامها ضد الدول الأُخرى- ملايينُ الضحايا من المدنيين الأبرياء، وتدمير مقومات حياة شعوبها؛ فمن فيتنام إلى أفغانستان والعراق، وغيرها من الدول حصدت الآلة العسكرية الأمريكية ملايين من سكان تلك الدول، ولم يكن هناك من مبرّر لاستخدام الإدارة الأمريكية للقوة، سوى سعيها لنهب وسرقة ثروات وموارد الدول، التي وصفها تقرير كسنجر سنة 1974 بالدول الأقل نمواً، وحدّد الحاجة الملحة للمواد الخام من هذه الدول، وفي سبيل ذلك ارتكبت الإدارة الأمريكية الفظائع بحق الشعوب المستضعفة.
ولم تتردّد الإدارة الأمريكية في التوقيع على المزيد من الالتزامات الدولية، التي تمنع التهديد باستعمال القوة في العلاقات الدولية أَو استخدامها ضد الدول الأُخرى، ومن هذه الالتزامات ما وَرد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (103/36) لسنة 1981م، الذي ورد في الفقرة (أ) منه في البند ثانياً ما نصُّه (واجبُ الدول الامتناعُ في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة أَو استعمالها بأي شكل من الأشكال، أَو عن انتهاك الحدود القائمة المعترف بها دوليًّا لدولة أُخرى أَو زعزعة النظام السياسي أَو الاجتماعي أَو الاقتصادي لدول أُخرى، أَو الإطاحة بالنظام السياسي لدولة أُخرى أَو حكومتها أَو تغييرهما، أَو إحداث توتر بين الدول بصورة ثنائية أَو جماعية، أَو حِرمان الشعوب من هُــوِيَّتها الوطنية وتراثها الثقافي).
ولا حصرَ في حقيقة الأمر للحالات التي هدّدت فيها الإدارة الأمريكية في علاقاتها الدولية باستعمال القوة، ولا حصر كذلك لحالات استخدامها للقوة ضد سلامة أراضي الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، الشريكة لها في التوقيع على احترام الالتزامات الدولية، وعلى رأسها الالتزام بالامتناع عن التهديد باستعمال القوة أَو استخدامها، فلا حصر لحالات التهديد ولحالات الاستخدام للقوة من جانب الإدارة الأمريكية في علاقاتها بغيرها من الدول، ولا حصرَ لحالات انتهاكها لحدود الدول الأُخرى براً وجواً وبحراً، ولا حصرَ لحالات زعزعتها للأنظمة السياسية للدول الأُخرى، التي لا تتفقُ مع أجنداتها وتوجُّـهاتها الإمبريالية.
وعملت الإدارة الأمريكية على تخريب الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية للدول، فكم من الدول كانت مستقرَّةً اجتماعياً وبتدخلات هذه الإدارة الإجرامية، انتهت تماماً حالةُ السلم الاجتماعي فيها، وتحوَّلت إلى مستنقعاتٍ للفوضى والاقتتال؛ لتتفرغَ الإدارة الأمريكية لتحقيق أهدافها في نهب وسرقة ثروات وموارد تلك الدول، وليس عنا ببعيد ما كشفته الأجهزةُ الأمنية من أعمال تخريبية للاقتصاد الوطني من جانب الإدارة الأمريكية، التي جنَّدت آلاف العملاء والجواسيس يعملون لحساب أجهزتها الاستخبارية، التي تعمل لتحقيق الخطط الشيطانية للإدارة الأمريكية، القائمة على أَسَاس الاستحواذ على الثروات والموارد العامة، ونهبها وحرمان الشعب من الاستفادة منها، وتحويل البلاد إلى مُجَـرّد سوق استهلاكية لمنتجاتِ مصانعها في الأراضي الأمريكية، أَو فروعها في المحيط العربي والإقليمي، وما كشفته الأجهزة الأمنية مؤخّراً من أعمالٍ تخريبية للاقتصاد الوطني، يوجد مثلُه وربما أكثرُ منه في بلدان أُخرى، لا تجرؤ حكوماتُها وأجهزتُها الأمنيةُ على كشفه لأسباب تتعلق بسطوة وتغلغل الأجهزة الاستخبارية للإدارة الأمريكية في المؤسّسات الرسمية لتلك الدول بجميع مستوياتها.
ولا تجد الإدارة الأمريكية حرجاً، ولا تقيم اعتباراً للجوانب الأخلاقية، المترتبة على استمرارها في انتهاك التزاماتها الدولية، رغم أن هذه الالتزاماتِ قائمةٌ وواجبةُ النفاذ ومنها ما ورد في الفقرة (ج) من البند الثاني من قرار الجمعية العامة السابق ونصه (واجبُ الدولة الامتناعُ عن التدخل المسلح أَو التخريب أَو الاحتلال العسكري أَو أي شكل آخر من أشكال التدخل، سافراً كان أَو مستتراً، يوجّهُ إلى دولة أُخرى أَو إلى مجموعة من الدول، أَو أي عمل من أعمال التدخل العسكري أَو السياسي أَو الاقتصادي في الشؤون الداخلية لدولة أُخرى، بما في ذلك الأعمال الانتقامية التي تنطوي على استعمال القوة).
وليس هناك شكلٌ من أشكال التدخل المسلح، إلا وخاضته الإدارةُ الأمريكية، وليس هناك عملٌ من أعمال التخريب، إلا وكان للإدارة الأمريكية دورٌ بارز فيه، مباشراً كان أَو غير مباشر، ولم يعد في عالم اليوم من دولة تحتل إقليمَ دولة أُخرى أَو جُزْءًا منه احتلالاً عسكريًّا مباشراً، إلا الإدارة الأمريكية وربيبتها المدلَّلة دولة الكيان الصهيوني، وتحتل إدارة الإجرام الأمريكية مساحاتٍ شاسعةً من أراضي عدد من الدول، وتنهب ثروات وموارد شعوبها جهاراً نهاراً، ولا تقيم أي اعتبار لما تعانيه تلك الشعوبُ من فقر ومجاعات وما ينتج عنها من ضحايا بمئات الآلاف.
ولا يقف تدخُّلُ الإدارة الأمريكية عند حَــدِّ التدخل العسكري، باستخدام القوة المسلحة الغاشمة، ضد أراضي الدول الأُخرى، بل إنها تتدخَّلُ في الجانب السياسي للدول، ويتجاوز الأمرُ في بعض الدول مُجَـرَّدَ تنصيب الحكام، ليصل إلى حَــدِّ موافقة سفيرها على التعيين في المناصب الأمنية والعسكرية والمدنية، ليس في المستويات العليا للسلطة فحسب، بل في المستويات المتوسطة وأحياناً في المستويات الدنيا، ليصبحَ سفيرُها هو الحاكم الفعلي في تلك الدول، وهذا عينُه ما كان سائدًا في بلادنا قبل ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 2014م، قبل طرد الحاكم الأمريكي من العاصمة صنعاء.
وذات القول ينطبقُ على الجانب الاقتصادي؛ فالإدارة الأمريكية تتحكم بتدخلاتها السافرة في مصير الدول؛ بهَدفِ إفقار وتجويع شعوبها، وتحويلها إلى شعوب غير قادرة على الإنتاج، والاستفادة من ثرواتها الزراعية والمعدنية، وتوظيفها في خدمة نهضتها في مختلف المجالات، بل تعمد إلى جعلها مُجَـرّد أسواق استهلاكية لمنتجاتها، في الوقت الذي تستأثر فيه بنهب وسرقة خيراتها وثرواتها، وهو أمر لا تنكرُه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بل وصل الحالُ ببعضها إلى الابتزاز العلني؛ بهَدفِ إفراغ خزائن الدول من الأموال لتكون ملكًا لها، وتحت تصرفها، ولا يزال أُسلُـوب الرئيس الأمريكي السابق ترامب ماثلًا للعيان، حين وصف النظامَ الحاكمَ في السعوديّة بالبقرة الحلوب، ووصفه بالعجز عن حماية عرشه وملكه لمدة أسبوع؛ ولتوفير الحماية له عليه أن يدفعَ الأموالَ إلى خزينة الإدارة الأمريكية.
ومن الواجبات المهمة التي تضمنها قرارُ الجمعية العامة للأمم المتحدة ما ورد في الفقرة (هـ) من البند ثانياً من ذلك القرار ونصه (واجبُ الدولة الامتناعُ عن أي إجراء أَو أية محاولة بأي شكل من الأشكال أَو بأية حُجّـة كانت؛ بهَدفِ زعزعة أَو تقويض استقرار دولة أُخرى أَو أَيٍّ من مؤسّساتها) ويعد من أشكال هذا التدخل المنتهك للالتزامات الدولية الواردة في هذا القرار، هو استمرار سعي الإدارة الأمريكية لتقويض الأوضاع الاقتصادية في بلادنا، وزعزعة استقراره الداخلي، من خلال تكليف أدواتها في المنطقة، تحديدًا نظامَ آل سعود، بتحريك حكومة العملاء لاتِّخاذ إجراءات مضرة بشعبنا في الجانب الاقتصادي؛ بهَدفِ الضغط على القيادة الثورية؛ للتراجُعِ عن موقف شعبنا المسانِد لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، خُصُوصاً بعد فشل تحالف الإدارة الأمريكية في البحر الأحمر المسمى "بحارس الازدهار" في حماية سفن الكيان الصهيوني والسفن المتجهة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة، بل وفشله في حماية السفن والبوارج والمدمّـرات الحربية وحاملة الطائرات الأمريكية، التي غادرت فارَّةً؛ خشية أن يُصيبَها ما أصاب السفن التجارية التي استقرت في قعر البحر وإلى الأبد.
وورد في الفقرة (و) من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ما نصه (واجبُ الدولة الامتناعُ عن القيام، بصورة مباشرة أَو غير مباشرة، بتعزيز أَو تشجيع أَو دعم أنشطة التمرد أَو الانفصال داخل دول أُخرى، بأية حجّـة كانت، أَو اتِّخاذ أية تدابير تستهدف تمزيق وحدة دول أُخرى أَو تقويض أَو تخريب نظامها السياسي).
وليس مبالغةً القولُ إن انحطاطَ القوة الغاشمة للإدارة الأمريكية، لم يقف عند حَــدّ ما سبق، بل إن من يفتش عن أسوأ سلوك يمكن أن تسلكه دولة من الدول، لن يجد هذا السلوك إلا ملازمًا للإدارة الأمريكية، رغم انتهاكه لكل التزاماتها الدولية، ومنافاته لكل القيم الإنسانية المتعارف عليها بين الدول، ولا تخجل الإدارة الأمريكية من ترديد الحديث عن القيم الديمقراطية التي تؤمن بها، وتعمل على نشرها في العالم، والوقع أن قيمها لا تخرُجُ عن تفوقها في الإجرام الدولي، واللصوصية ونهب موارد وثروات الشعوب، وتخريب وتمزيق وحدة الدول، وما يجسد هذه الحقيقة هو مؤامراتها التي تستهدف وحدة بلدنا، كإجراء انتقامي بعد طردها من العاصمة صنعاء عقب نجاح ثورة عام 2014.
وضمن انتهاكات الإدارة الأمريكية لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتهاكها لما ورد في الفقرة (ز) من البند الثاني ونصه (واجبُ الدولة منعُ تدريب المرتزِقة وتمويلهم وتجنيدهم في إقليمها، أَو إرسالهم إلى إقليم دولة أُخرى، وعدم تقديم ما يلزم من تسهيلات، بما في ذلك التمويل، لتجهيزهم وعبورهم) ليست بلاك ووتر إلَّا أُنموذجاً لتدريب وتمويل واستخدام المرتزِقة في العمليات القذرة للإدارة الأمريكية حول العالم، ويتجسد الانتهاك الخطير للنص السابق في منطقتنا العربية في صناعة وتجنيد الإدارة الأمريكية للقوى الإرهابية، وتمويلها وتدريبها، وتجهيزها ومَدِّها بكافة التسهيلات، واستخدامها في عملياتها الإرهابية الإجرامية القذرة في تجمُّعات السكان المدنيين في المساجد والمدارس ووسائل المواصلات في عدد من البلدان العربية والإسلامية ومنها بلادنا، ونتج عن العمليات الإرهابية عشراتُ الآلاف من الضحايا خلال العقود الماضية، وتمثل هذه الجماعات جُزءاً من الجيش البري الأمريكي، واتضح مؤخّراً حقيقةُ تلك القوى الإجرامية في موقفها من جريمة الإبادة الجماعية التي تقترفُها القوى الاستعمارية الصهيوغربية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ويعد أخطر تدخلات الإدارة الأمريكية في شؤون الدول الأُخرى، والتي تمثل انتهاكًا سافرًا لميثاق الأمم المتحدة، وقرار جمعيتها العامة هو ذلك الانتهاك للمنع الوارد في الفقرة (ل) من البند الثاني ونصه (واجبُ الدولة الامتناعُ عن استغلال وتشويه قضايا حقوق الإنسان، كوسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، أَو لممارسة الضغط على دول أُخرى، أَو خلق عدم الثقة والفوضى داخل الدول أَو مجموعات الدول وفيما بينها).
تأتي هذه الخطوةُ من تدخل الإدارة الأمريكية، عقب اختراق أجهزتها الاستخبارية للمؤسّسات الرسمية في الدول الأُخرى، وإفشالها تماماً أمامَ مواطنيها لتصبحَ عاجزةً عن تلبية أبسط احتياجاتهم، وبمُجَـرّد تحقّق هذه الحالة تظهر الأجهزة الاستخبارية التابعة للإدارة الأمريكية من نافذة أُخرى، هي النافذة الإنسانية؛ فمن خلال مئات المنظمات العاملة في المجال الإنساني، تتمكّن أجهزتها الاستخبارية من تلبية الاحتياجات الأَسَاسية للمواطنين، وربطهم بها بعد تدمير ولائهم لدولهم، وتخريب علاقتهم بمؤسّساتها الرسمية.
وبذلك تحل الأجهزة الاستخبارية التابعة للإدارة الأمريكية، بشكل تدريجي محل أجهزة الدولة، لتصبح هي المتحكمة في كافة الشؤون العامة في تلك البلدان صغيرها وكبيرها، وما ذكرناه هنا ليس مُجَـرّد تخمين أَو استنتاج، أَو كشف أمني لاحق لمخطّطات الأجهزة الاستخبارية، بل معلومات موثقة، مصدرُها الوثائقُ الرسمية للإدارة الأمريكية ذاتها، فقد ورد ضمن مذكرة الأمن القومي لسنة1974م أَو ما يُعرَفُ بتقرير "كسنجر" الذي تم رفعُ السرية عنه، ونقلُه إلى الأَرشيف الوطني الأمريكي في عام 1990م، والذي نصح الإدارة الأمريكية بعدم الإعلان عن الأنشطة التي تقوم بها حكومتها، وأن تقوم باستخدام المنظمات غير الحكومية المختلفة، والاعتماد على الوكالات المتعددة الأطراف.
والحقيقة أنه من الصعوبة بمكان، الإحاطة بجرائمِ الإدارة الأمريكية، المتعلقة بانتهاك التزاماتها الدولية في جانبها المتعلق بالامتناع عن التهديد باستعمال القوة أَو استخدامها ضد سلامة أراضي الدول الأُخرى وسيادتها واستقلالها؛ ولأنَّ الإدارة الأمريكية تمثل قوةً غاشمة فليس من المتصور أن يكون ضمنَ أجندة هذه القوة الغاشمة الاعتمادُ في علاقاتها الدولية على الأساليب الودية في معالجة كافة الإشكاليات، التي يثيرُها الواقع العملي بين الدول؛ فالإدارة الأمريكية لا تعتمد إلا أُسلُـوب القوة، وطالما أن ذلك هو أُسلُـوبها، فلن يجديَ معها إلَّا أُسلُـوبٌ مقابِلٌ له؛ فهو الكفيلُ بردعها وكبح جماحها، وغير ذلك من الأساليب لا يمكنُ أن تجديَ نفعًا.
وأمامنا شاهد حي على ما سبق وهو أن الإدارةَ الأمريكية تواجدت ببوارجها الحربية ومدمّـراتها وحاملات طائرات في شرق البحر المتوسط، عقب عملية (طوفان الأقصى) لإسناد الكيان الصهيوني ومشاركته في جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكان الهدف المعلن لهذا التواجد شرق البحر المتوسط، هو ردع أية دولة أَو قوى أُخرى في المنطقة ومنعها من التدخل إلى جانبِ فصائل المقاومة الفلسطينية، ضد الكيان الصهيوني، وَإذَا لم يكن هذا السلوك الأمريكي تهديدًا للمنطقة بأسرها باستعمال القوة العسكرية فماذا يعني التهديد، وَفْقًا للوثائق الدولية؟
وقد ترتب على ذلك إحجام أغلب الدول العربية والإسلامية حتى عن مُجَـرّد تقديم المعونات الغذائية والدوائية؛ للحد من تفاقم المجاعة الناتجة عن الحصار المطبِق المفروض على قطاع غزة، ولم تتحَرّك الأنظمة العربية بأية إجراءات مساندة للشعب الفلسطيني، واكتفت بالسير وراء وَهْمِ الوساطة الأمريكية، التي وفَّرت للكيان المجرم الوقتَ الكافي لاستكمال فصول جريمة الإبادة الجماعية.
وحين تحَرّك السيد القائد/ عبد الملك بدر الدين الحوثي؛ للتعبيرِ عن موقف شعبنا لنصرة إخوانه المستضعفين في قطاع غزة، من خلال إجراءات ضاغطة على مراحلَ متدرجة، كان رَدُّ الإدارة الأمريكية على تحَرّك شعبنا منذ البداية، التهديد باستخدام القوة العسكرية، من خلال التواجد العسكري الكبير في البحر الأحمر، تحت مسمى "حارس الازدهار"، والهدف الأَسَاسي لهذا التحَرّك هو فرض حالة ردع في مواجهة شعبنا وقيادته الثورية وقواته المسلحة؛ ولأنَّ الإدارةَ الأمريكية اعتادت في علاقاتها وتعاملاتها الدولية على التهديدِ بالقوة العسكرة واستخدامها في مواجهة الدول الأُخرى لإخضاعها، فَــإنَّ مواجهةَ شعبنا للإدارة الأمريكية بأُسلُـوبها قد أثبت فعاليتَه، رغم الفارقِ الكبير في العدة والعتاد على كُـلّ المستويات، ومع ذلك لجأ "حارسُ الازدهار" في نهاية المطاف إلى الفرار، تحت عناوينَ متعددةٍ، منها إعادة الانتشار!