بعد أسبوع واحد من قرار إقالة حكومة الإنقاذ الوطني وتكليفها بتصريف الأعمال، جاءت عملية «طوفان الأقصى»، التي انخرط فيها اليمن بشكل كامل، ليطول انتظار الشعب اليمني للتغيير الجذري عشرة أشهر، حتى بدأت ملامحه تظهر بتكليف أحمد غالب الرهوي بتشكيل حكومة التغيير والبناء، وتعيين عبد العزيز بن حبتور في المجلس السياسي الأعلى.
قد يرى البعض أنها بداية غير مبشرة؛ لأن ما يبدو عليه الأمر تبديل في المقاعد، ابن حبتور في مقعد الرهوي، والرهوي في مقعد ابن حبتور؛ ولكن الحقيقة الغائبة عن الكثير أن دائرة الاختيار لرئيس الحكومة كانت منذ اللحظة الأولى ضيقة جداً، جراء «العرف الدستوري» السائد بأن يكون رئيس الوزراء من أبناء المحافظات الجنوبية ومن المنتمين لحزب المؤتمر الشعبي العام. ويمثل هذا «العرف» حالة من التوازن السياسي في إطار الشراكة الوطنية، لاسيما مع ما يتعرض له اليمن من محاولات خارجية متواصلة للتمزيق والتقسيم والتفتيت.
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الشعب فقدت الثقة بالوجوه السياسية الموجودة في حكومة الإنقاذ والمجلس السياسي الأعلى، إلا أن الرهان الكبير على رؤية قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، باعتباره الضمانة الأكيدة وصاحب التفويض المطلق لإخراج اليمن من الحالة الراهنة، في ظل الفرص والتحديات الداخلية والخارجية، وإطلاق شعار التغيير والبناء كعنوان للمرحلة القادمة، هو نافذة أمل وضوء كبيرة في ظل عتمة الفساد السياسي والاقتصادي القائم، فالتغيير هو بحد ذاته فرصة ويمثل المدخل الرئيس لعملية البناء والنهوض، لاسيما وأن اليمن لم يعد دولة «هامشية» كما كان في السابق، وإنما أصبح رقماً صعباً في الحسابات الدولية والإقليمية.
نحن، وأعني هنا عامة الشعب، بحاجة ماسة للإيمان الحقيقي بحاجتنا الملحة للتغيير والبناء باعتبار ذلك فرصة مواتية للخروج من عنق الزجاجة، لأن مقاومة المجتمع للتغيير كفيلة بإفشال أي جهد حكومي أو رسمي، فالتغيير يحتاج إلى خطوات لم نقترب من تطبيقها بشكل صحيح، بل إننا لا نأخذ الأمر بمحمل الجد، لهذا نحن نغفل أننا نقاوم التغيير حقيقة ونحول الفرصة الى تحدٍّ. والمؤسف أن مقاومة التغيير جزء خطير لا نحس به، لأننا ومنذ عقود طويلة والتغيير حلم يراودنا؛ لكنه بقي مجرد حلم، لم يتحقق منه شيء. نحن بحاجة للتغيير في نمط حياتنا اليومي، وعدم إهدار أوقاتنا بدون إنتاج، وبحاجة إلى تغيير تعليمنا وعملنا واهتماماتنا، وتربية أولادنا وطريقة تسيير مؤسساتنا، وكيفية استغلال طاقات شبابنا (وما أكثرها!)، واستشعار مسؤوليتنا وأدوارنا في البناء والتنمية.
باعتقادي أننا أمام مرحلة حساسة ومفصلية، ولن تكون مهمة «الرهوي» وحكومته سهلة أبداً، لأن التحديات والفرص الداخلية والخارجية مرتبطة ببعضها البعض، فنحن أمام استحقاقات كبيرة تتمثل بانتزاع الثروات السيادية والقرار الوطني من فك التحالف بقيادة الولايات المتحدة والمملكة السعودية، تمهيداً لفرض السيادة الوطنية على كامل الجغرافيا اليمنية، وإحلال السلام بإنهاء كل مظاهر العدوان والحصار التي ما زالت قائمة ونتائجها تلامس الحياة اليومية لكل فرد في المجتمع، وفي الوقت ذاته علينا استكمال المسار الذي ألزم به اليمن نفسه في إسناد «غزة» ووحدة الساحات مع «محور المقاومة» ضمن معركة «الفتح الموعود والجهاد المقدس» وتبعات ذلك على المستوى الإقليمي. ولا نتوقع أبداً أن «محور الشر» سيكف عن محاربة بلادنا، وتقويض كل فرص الاستقرار السياسي والاقتصادي. ولكن إدارة هذا الملف بمنهجية السيد القائد لن يحرم اليمن من فوائد جمة بعد وقف إطلاق النار في غزة.
لم يسبق لأي من الدول العربية، وخاصة تلك المشاطئة للبحر الأحمر، أن مارست سلوكاً دولياً استقلالياً حقيقياً منذ سقوط الإتحاد السوفييتي وتفرد الولايات المتحدة بالهيمنة المطلقة على غرب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، مع اختفاء مظاهر الأمن القومي العربي والاجتياح الأمريكي للعراق. ولكن اليمن بقيادة «أبو جبريل»، عبر قراره السياسي المستقل وتمكنه من استخدام القوة العسكرية ضمن أدوات الردع واستخدام موقعه الجغرافي الحاكم في منطقة بالغة الحساسية من الشرق الأوسط، تمكن من الخروج من دائرة التبعية للقوى الكبرى الاستعمارية والإمبريالية، التي تفرض الشروط على الدول الضعيفة والفقيرة وتسلبها قرارها.
وبفضل الرؤية السياسية العميقة والفهم الصحيح لبيئة العلاقات الدولية، والقدرة على تصنيف المواقف الدولية التي تصب في مصلحتها ومصلحة الأمن القومي العربي، ومن ضمنها قضية الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وقدرة اليمن بموقعه الجغرافي في التأثير بواقع الأمة العربية ومصالحها إيجاباً، وعلى مدى سنوات طويلة وعقود متعددة من الزمن سلب اليمن حقه الطبيعي وموقعه الجيوسياسي، ولكنه مؤخراً بدأ بوضع النقاط على الحروف، متمسكاً بحقه في الإطلالة الجيوستراتيجية على مضيق باب المندب وخليج عدن وجنوب البحر الأحمر وعلى البحر العربي. وطالما أدرك العالم ذلك كله سيكون لزاماً عليه أن يحترم السيادة اليمنية ويقر بحرية واستقلال القرار السيادي اليمني في بحاره ومنافذه. وهذه من أوراق القوة التي يمكن أن تستخدمها حكومة التغيير والبناء في مهمتها القادمة.