عقب إعلان تشكيل المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، بذلت السلطة القائمة جهداً كبيراً للحفاظ على مؤسسات الدولة الرسمية من السقوط، أمام الحرب الشاملة التي استهدفت بنية الدولة ومقراتها وخدماتها. وعلى مدى سنوات الحرب حاولت دول العدوان تعطيل المؤسسات الرسمية والحكومية بشتى الوسائل؛ اغتالت رئيس المجلس السياسي الأعلى، الرئيس الشهيد صالح الصماد، وقصفت مقرات الرئاسة ومكتب رئيس الجمهورية وأماكن اجتماعات ولقاءات قيادات الدولة، واستهدفت المؤسسات الخدمية من الكهرباء إلى الاتصالات إلى المياه مروراً بالمدارس ومطابع الكتاب المدرسي ومقرات الأمن وأقسام الشرطة والسجون، ومرافق الخدمات الصحية والمستشفيات ومقرات السلطات المحلية والمكاتب التنفيذية... وأمام كل ذلك تصدى أبطال الوظيفة الحكومية لكل التحديات وعمل بعض الوزراء والمحافظين والوكلاء والمدراء في باحات مؤسساتهم (المقصوفة)، وتحت الأشجار في بعض المحافظات، من أجل استمرار بقاء شكل الدولة واستمرار خدماتها للمواطن، الذي كان يشعر بأن ثمة دولة عصية على الانكسار ولا تزال تقدم خدماتها بما هو ممكن أو متاح.
فوجئ العدو بهذا الإصرار الكبير والتحدي العظيم، لينتقل إلى خطوته التالية باستهداف الاقتصاد، من خلال قرار نقل البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن الواقعة تحت سلطات العدوان، وجرى وقف التحويلات الخارجية وسرقة إيرادات النفط والغاز اليمني، وتحويلها إلى البنك الأهلي السعودي، ما أدى إلى توقف صرف المرتبات لموظفي الدولة، كإجراء عقابي يهدف إلى توقف عمل مؤسسات الدولة التي واجهت هذا التحدي بإصرار كبير على البقاء، وعملت الحكومة ووزاراتها ومؤسساتها بموازنة لا تكاد تذكر أمام ما كانت تحصل عليه قبل هذه الإجراءات.
رغم الانكماش الاقتصادي وتوقف التبادل التجاري بين اليمن ودول العالم جراء الحرب والحصار، والتراجع الحاد في إيرادات الجمارك والضرائب وفقدان عائدات النفط والغاز المسال والموارد السيادية، تمكنت صنعاء من إدارة المعركة بموازنتين: واحدة للنفقات العسكرية الضرورية واحتياج الجبهات، وأخرى لإدارة الدولة واستمرار بقاء الحكومة ومؤسساتها وهياكلها الإدارية لمواجهة الاحتياجات الأساسية عبر خطط وفرت من خلالها موارد مالية جديدة، وبشراكة وتناغم بين الإيرادات المحلية والإيرادات المركزية افتتح الرئيس مهدي المشاط العشرات من المشاريع الخدمية في عدد من المحافظات، وكانت هذه ضربة موجعة لدول العدوان التي ترى الدولة حاضرة وبقوة رغم كل محاولات إسقاطها.
أمام كل هذه النجاحات للسلطة ومؤسساتها ثمة إشكالية تحتاج إلى دراسة وفق نظريتين: الأولى: نظرية حسن النوايا، والثانية: نظرية الشك - وهي أقرب لنظرية المؤامرة. ومن خلال البحث والدراسة الواقعية يمكن التوصل إلى خلاصة لهذه الإشكالية والبدء بوضع حلول ومعالجات لتجاوزها، وهذا أقل ما يمكن تقديمه على شكل رد اعتبار للجهود الوطنية والمخلصة التي بذلت وما زالت تبذل الكثير للحفاظ على الدولة ومؤسستها ومكانتها أمام الشعب الصامد.
الإشكالية هي إصباغ لون واحد على الدولة التي يفترض أن تكون للجميع، وهي في الأساس دولة لكل اليمنيين؛ لأن الدولة -بحسب توصيف الشهيد البرفسور أحمد شرف الدين- عبارة عن شخص معنوي، وهذه جدلية قد خاض فيها المفكرون كثيراً، ولكنهم لم يصلو إلى نتيجة بشأنها، ونحن الآن نطرح هذه الجدلية من جديد ونقول إن الدولة في العصر الحاضر ينبغي أن تغيب عن الخطاب الديني، لأننا قد جربنا الدولة الدينية، على مدى مئات السنين، وكانت الدولة عندما تتبنى الدين وتعممه في صورة مذهب معين تلغي المذاهب والأفكار الأخرى، وخلال سنوات العدوان على اليمن، عمل إعلام العدوان على تقديم صورة نمطية عن الدولة اليمنية بأنها "أنصار الله" فقط، في محاولة لإلغاء كل الشركاء والحلفاء السياسيين للأنصار، وإلصاق تهمة كل إخفاق أو فشل أو خلل في مؤسسات الدولة بالأنصار وحدهم، كجزء من المعركة التي "تشيطن" الأنصار في كل "شاردة وواردة".
في نظرية حسن النوايا سنأخذ كل "المخالفين" في مؤسسات الدولة بمحمل حسن، ونتساءل: لماذا يحاول كل موظف حكومي تقديم نفسه كأنه من "أنصار الله" ويصبغ نفسه بلون الأنصار؟! هل هي ثقافة "الحزب الحاكم" التي اعتاد عليها الموظف العام على مدى عقود حكم نظام صالح؟! أم أن نشوة الانتصارات التي يحققها الأنصار عسكرياً وأمنياً دفعت بالموظف الحكومي لتقديم نفسه "كمجاهد" فخراً واعتزازاً بالمجاهدين حتى وإن لم يكن منهم؟! والخطورة هنا مهما كانت النوايا حسنة، أن أبسط خطأ أو مخالفة يرتكبها الموظف الحكومي تجير وتحسب على الأنصار والمجاهدين، في الوقت الذي يمكن أن يكون فيه هذا الموظف من بقايا النظام السابق أو الأسبق.
في نظرية الشك التي يمكن أن نذهب إليها من "سردية" إعلام العدو الذي يقدم كل موظف حكومي على أنه "أنصار الله"، هل يمكننا التفكير أن العدو الذي فشل في تعطيل دور الدولة بالحرب والحصار الاقتصادي يستخدم بعض "المدسوسين" في الوظيفة العامة، للهدم من الداخل؟! وهنا يمكن تقديم بعض الشواهد البسيطة، ومنها على سبيل المثال ما حدث في "رداع" من هدم للمساكن وتفجيرها، هل من ارتكب هذه الجريمة التي استنكرها الأنصار قبل غيرهم، "مدسوس"، أم أنه غباء إداري لموظف حكومي؟! إذا أخذنا فرضية العمل المدبَّر فالنتيجة كانت سلبية على الأنصار، وهذا نتاج طبيعي لاستمرار البعض في الداخل بتقديم السلطة على أنها "سلطة الأنصار" وحدهم، عندما يأتي النقد على أي موظف حكومي أو صاحب سلطة عليا في الدولة متهم بمخالفة ما، يتسابق ناشطو الإعلام الإلكتروني على تبرئة المتهم وتقديمه رمزا من رموز النزاهة، وهذا يكرس فكرة العدوان أن كل صاحب سلطة اعتبارية أو وظيفة عامة هو "أنصار الله"، والمعروف في العالم كله أنه حيث توجد السلطة توجد المخالفات والانتهاكات، ونحن في الأول والأخير أمام بشر يصيبون ويخطئون، المسؤول الحكومي هو موظف لدى الشعب، إذا أحسن العمل يكافئه المسؤول الأعلى منه، وإن أخطأ هناك لوائح وعقوبات تنتظره، ومن الخطأ أن ندافع عنه، وإذا طلعت "ريحته" نذهب للقول هي "تصرفات فردية"!
عندما يكون الوزير أو صاحب السلطة العليا مجاهداً ليس بالضرورة أن يكون كل العاملين في إطار المؤسسة مجاهدين أو أولياء، ومثال على ذلك وزارة الداخلية، التي قدمت وما زالت تقدم الكثير في إطار ضبط الجريمة وتحقيق مستويات عالية في ضبط الأمن وتوفير الاستقرار والأمان في المحافظات، بفضل قيادتها الحكيمة والمخلصين في الوزارة من منتسبيها الأوفياء للوطن، وهنا أسرد لكم قضية تابعتها شخصياً في منتصف شهر رمضان الجاري.
أقدم أحد منتسبي الوزارة مستخدماً سلطته الضبطية في البحث الجنائي بالعاصمة صنعاء على اختطاف مواطن بطريقة مخالفة للقانون، واقتياد هذا المواطن إلى إدارة البحث الجنائي لإرغامه على حل مشكلة قضائية تجارية -وليست جنائية- بينه وبين شخص آخر، منظورة أمام المحكمة التجارية. تواصلت بقيادة الوزارة ووعدوا بالتحقيق والمحاسبة؛ ولكن هذا الأمني لم يتوقف عن استخدام سلطة الداخلية، ورفض تسليم ملف القضية للنيابة. هل يمكننا القول هنا إن سلطة الأنصار تختطف الناس بدون أوامر ضبط وتتدخل في سلطات النيابة؟ أم ننتظر حتى تتحول القضية إلى رأي عام ونرفع الشعار الدائم "تصرفات فردية"؟! سواء كانت المخالفات المرتكبة بحسن نيه أو بسوء نية لن تتوقف إلا بمبدأ الحساب والعقاب العلني الذي ينصف الضحايا ويقدم نموذجا للسلطة النزيهة التي لا تقبل التجاوز والمخالفة حتى لو كان مرتكبها ممن يدعون أنهم مجاهدون ويكون اسمه "أبو فلان"!
ولا يمكن أن نواجه "سردية العدو" واستخدامه الوظيفة العامة شماعة "لشيطنة" الأنصار ما لم نتخلَّ عن ترميز وتقديس الأشخاص الذين يمارسون الوظيفة العامة، ونعمل بجهد عالي المستوى على إزالة كل مظاهر اللون الواحد في مؤسسات الدولة، ولا يكون الحكم على موظف الدولة بما يتزين به من مظاهر وشعارات وصور وادعاء مزيف، وإنما من خلال سلوكه في تنفيذ الواجبات الوظيفية الملقاة على عاتقه ضمن صلاحياته وواجباته الإدارية.
* نقلا عن : لا ميديا