تتسارع الخطوات التطويعية بعد أن تتم التطبيع الرسمي للعديد من الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني، في كل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. وهنا تأتي ما تسمى ب(صفقة القرن ) ومقارباتها المتمثلة بالندوات والمؤتمرات الاقتصادية والسياسية ،ومن ذلك المؤتمر الذي عقد في «المنامة « عاصمة البحرين ،يومي 26،25-6-2019م،بغرض التمكين الاقتصادي للكيان الصهيوني في المنطقة العربية ،بحيث يصبح هو المهيمن على مقدرات وجغرافيات الوطن العربي اقتصاديا، وتطويعه للإنسان العربي ثقافيا .
ومن أجل تحقيق هدف التمكين تم تسويق الأوهام الاقتصادية، ومن ذلك المبلغ المالي الذي صرح به (كوشنر ) مستشار الرئيس الأمريكي (ترمب)وحدده بخمسين مليار دولار من أجل تنفيذ مشاريع اقتصادية في مصر والأردن ولبنان وفلسطين ،مع تسويق شعار (الأمن مقابل الازدهار)بعد أن كان شعار إسرائيل في الستينيات (الأرض مقابل السلام )! والعجيب أن الخمسين ملياراً، والتي سيخصص منها على مراحل 13ملياراً لتوسيع غزة والضفة نحو مصر والأردن ،هي ذات الأموال التي تخصصها مشيخات الخليج ودول أوروبية للأنوروا، بمعنى ربط حق العمل بتخلي الفلسطيني عن حق العودة ، وضم الجولان .
إن الحديث عن الأمن هنا لا ينصرف في دلالته إلى حق الفلسطيني والعربي بشكل عام في العيش في أرضه بأمن وأمان ،وإنما لتأكيد أمن إسرائيل ،بتمددها جغرافيا إلى حيث تصل أساطيرها وأوهامها ،إلى حيث تتحقق الأطماع الامبريالية ،بدولة لا تكتفي بمزاعم الحدود التوراتية من «النيل إلى الفارات « ولكنها تشمل كل الجزيرة العربية ومنافذها وممراتها البحرية!
ليس اعتباطا أن تسمى (صفقة القرن )فكل مشاريع الاحتلال والاستعمار الاستيطاني هي منذ البدء صفقات تمتد إلى أكثر من قرن ،فكل خيانات السلاطين والمشيخات هي خيانات قرنية ،ليست آنية وعابرة ،أي أن تداعياتها تعمل على شل الأمة زمنا طويلا ،ولنا في (الصفقة ) التي عقدها (هنس)نيابة عن شركة الهند الشرقية كممثل للاستعمار البريطاني مع مشايخ وسلاطين اليمن ،بدءا من تلك (الصفقة ) التي عقدها مع سلطان لحج وانتهاء بهرولة باقي المشيخات بصفقات سميت بمعاهدات(حماية ) و (استشارة) ،وصولا إلى هيمنة واستعمار لم ينته إلاَّ بعد ركام من الدماء والدموع ،ولم يتحقق الأمل التحرري إلاَّ بمضي 128عاما ،وعلى ذلك كان الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان ،والبريطاني في مصر والعراق وفلسطين، والإيطالي في ليبيا ،والفرنسي الاستيطاني في الجزائر .
إن كل (صفقة) استعمارية كبرى يتناسل منها عديد صفقات ترهن الوطن والثروات ،وتستعبد الإنسان لصالح المستعمر .
دلالة الـ(صفقة)تتجه في فوائدها وأرباحها لصالح الغرب الامبريالي ،وذراعه الصهيوني في المنطقة ،وتتحول الشعوب العربية بعد ذلك إلى حارس لمصالح المستعمر ،وجنود تحت بيادته التي تدوس الكرامة والعزة والإباء ،وكل ما يمت لمكارم الأخلاق العربية .
إن القضية الفلسطينية قضية وطن عربي سلب بالقوة ،وشعب يتعرض خلال أكثر من مائة عام للتقتيل والتهجير والترحيل ؛أي أنها ليست مجرد قضية مظلومية وانتهاك للقوانين والحقوق. إنها قضية صراع وجود ،لا قضية حدود وحقوق جزئية ،قضية سيادة وثروة ،لا قضية صفقات وملهاة.قضية وعي لا قضية لهو .
قضية الصراع العربي /الصهيوني ليست قضية انتهاكات صهيونية للقانون فحسب ،فهذا الاختزال هو بحد ذاته تعزيز وتطبيع وتطويع لاغتصاب فلسطين ،ونقلها من قضية وطنية في مواجهة مستعمر استيطاني إلى قضية مطلبية وانتهاكات ومظلومية حقوقية!
كل تكريس للخصوصيات بين الأقطار العربية يخدم في مآلاته الصهيونية ،غذ يجعل الشعب العربي شعوبا متغايرة ومتنافرة بالخصوصيات! هناك فرق بين ثراء التعدد وبين تنافر الغرباء!
إن إسقاط ما يسمى بـ(صفقة القرن)يحتاج منا إلى أن نسقطها في وعينا أولا ،بالتنبه لكل حيلها وأشكالها ولبوسها، في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي ،وفي الاقتصاد والسياسة ،وفي التكتيكات والاستراتيجيات الغربية في المنطقة ؛أي أن إسقاطها بحاجة إلى وعي وفعل شامل ،يبدأ فكرا موازيا لحركة مناهضة لكل أشكال التطبيع والتطويع مع الغرب الامبريالي ووكلائه في المنطقة، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني ،كذراع امبريالية تم غرسها في قلب العروبة النابض ،فلسطين ،خاصرة الأمة ،وبوصلة الضمير العربي .
ومن هنا فلابد من تمتين حائط الصد العربي ،على المستوى الشعبي ،لأنه بعد سقوط الأنظمة العربية وتطبيعها وانخراطها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا مع المشروع الغربي الصهيوني في المنطقة ،أصبح الهدف هو تتويج غلبة الغرب والصهيونية على الشعوب العربية ؛أي إماتة الأمة كشعب ،بجعل العبودية قدرا ،واستلاب العقل واقعية، وضمور الشعب العربي ازدهارا !
(الصفقة )من (فرص )الاستعمار التي تروج ملهاة سوداء ،باستخدام التلاعب والغموض في الدلالات والمقاصد ،ضمن لعبة (العصا والجزرة ) .
بدأوا بحكاية (الأرض مقابل السلام ) وكانت مقاصدها الفعلية أن أمن إسرائيل لا يتم إلاَّ بالمزيد من احتلال الأراضي العربية. وهاهم اليوم يرفعون شعار (الأمن مقابل الازدهار ) والمقصود منه أن أمن الصهيونية وازدهارها لا يكون إلاَّ بالتخلي عن الأرض والثروة لصالح ازدهار الامبريالية وذراعها الصهيوني في المنطقة .
من تعبير مبهم سموه (صفقة القرن) إلى قول (كوشنر)إنها ليست صفقة وإنما (فرصة) وكل عمليات التطويع منذ إعلان بلفور يتم تقديمها على أنها (فرص ضائعة) ولا ضياع إلاَّ للوجود العربي، وطمس متدرج مدروس للقضية الفلسطينية ،ملازم لضياع الوجود العربي أرضا وإنسانا.
إن (صفقة القرن )أو (فرصة القرن ) وما روج له ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بمشروع اقتصادي سماه (مدينة نيون) تمتد مشاريعها الاقتصادية من فلسطين ومصر ومشيخات الخليج وصولا إلى باب المندب وعدن وجيبوتي –يخرج من مشكاة صهيونية استعمارية واحدة ،وإن تعددت مسمياتها ،فكلها ترجمة فعلية للزمن الإسرائيلي الذي يبشروننا به!