إلى متى تظل أيادي الماضي تلعب بالحاضر وتتحكم بروح المستقبل بذريعة أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وحتى متى يبقى الإنسان أسير النزوات والغرائز، والأطماع والأحقاد مسلوب الإرادة والعقل والضمير؟
متى يفسح المجال للعقل ليحكم ويدير الحياة بما ينفع الناس ويجنبهم ويلات الحروب ويعلِّمهم أن الحرب المقدسة الوحيدة هي تلك التي تكون في مقاومة العدوان والظلم والغرور، متى نضع العقل في مكانه اللائق، في عالم أصبحت المعلومة فيه طوع البنان وصار العالم كله مع الإنسان في حله وترحاله، لقد تجاوزنا مرحلة المقولة المعروفة :(العالم قرية واحدة) بما لا يقاس !.
متى نطلق العقل من عقاله، فنجعله من يعقل أهواءَنا وغرائزَنا ورغباتنا الجامحة.
الخطاب الديني والعلمي والقانوني والأخلاقي وكل خطاب موجه كله إلى العقل دائماً مهما تعددت غايات أصحابه بين التنوير والتجهيل، وبين التحريض على امتلاك الإرادة أو سلبها، وهذا نتاج طبيعي للحياة وللتنافس بين قوى الخير والشر مادامت الحياة !.
فإذا كان العقل مناط التكليف الشرعي فإن مخاطبته كذلك طريق الإنسان لتنمية ذاته والإسهام في تنمية مجتمعه ومحيطه الأقرب فالبعيد ثم الأبعد أياً كانت مفردات الخطاب وأدواته وفلسفته، والعقل أداة الانسان لتنفيذ التكاليف الدينية والأخلاقية وعنوان التغيير نحو الأفضل.
كيف لنا أن نبني وأن نطور وسائل الحياة وأدواتها وأنماطها بدون بصر وبصيرة ودون معرفة أن البصيرة هي الأهم لأنها ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات؟!
كيف لأمة تضع العقل في سلة المهملات أن ترتقي سلّم المجد الذي تدعي أنه من صنعها وأنها مصدِّرُه للعالم ؟!.
وأنّى لشعبٍ تحقيق كيانه اللائق بين شعوب الأرض وهو يجهل كيفية التعامل مع التأريخ ومع الجغرافيا أيضاً التي يشغلها وتشغله ويهدر عمرَه في الدوران في الفراغ !!.
أنّى له العبور إلى الغاية المرجوة والأمل المنشود دون أن يعي كيف يصان التأريخ من الأكاذيب والتزوير والتشويه وسوء الاستغلال والتوظيف ودون أن يفهم أن كل وقائع التأريخ ملك الانسان حاضراً وليس العكس وأنه رهن العقل الناضج الواعي !.
الأمة المستلبة والشعب المغيَّب لا يمكن أن يصنعا شيئاً ولا أن يقاوما تحديات البقاء والاستمرار.
يجب أن نستخرج من التأريخ إيجابياته وعبره لتكون جزءاً من حياتنا لنعيش اللحظة ونستوعب المرحلة، ونحن بالتالي من يجب أن نمتلك التأريخ ونتفحص وجهه المشرق، ومن يتوجب علينا تنقيته من أسباب الصراعات والأحقاد والضغائن وضيق الأفق ونغذيه بروح المقاومة، الوجه الذي يدرك قَدْرَ العدل في الحياة وقَدَرُهْ للإنسان أو عليه وأهميته في بناء مجتمع سعيد خالٍ من العُقَد والأمراض ومعنى كونهُ أقربُ للتقوى وللدين الحقيقي.
من الضروري جداً إدراك أن أولي الأبصار وحدهم من لديهم القدرة على الاستفادة وأخذ العبرة من تجارب التأريخ والصراعات التي مرّت بالشعوب ولهذا كان الخطاب موجها إليهم في قوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) صدق الله العظيم.
بدون تمثل هذا المعنى للعدل لن ولن يتحقق المعنى الحقيقي لتلازم العدل مع الحرية ولا القيمة التي يمثلها هذا التلازم في حياتنا الحاضرة والمستقبلية ، أما حياتنا الماضية فكما نوهت إنما هي ملك من يريد أن يستخرج ويستنبط منها ما يفيد اللحظة المعاشة ، وقيمة الحياة لا تستقيم بدون هذا التعامل الواعي مع المثلث الزمني المتتالي والمترابط : الماضي والحاضر والمستقبل ، ورسالة الانسان في هذه الحياة حسبما حددته شريعة الإسلام وكل الشرائع والأديان والمذاهب التي تخاطب العقل وتحترمه تقتضي من الانسان استيعاب تركيب هذه المعادلة الذهبية التي تستقي من التأريخ ما يفيد الحاضر ليقوم بواجبه في الحاضر نحو نفسه ومجتمعه والإنسانية ، وأن يترجم الرسالة التي رسمها الله للمسلم الحق (كنتم خيرُ أمةٍ أخرجت للناسِ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) صدق الله العظيم . (آية 110) سورة آل عمران.
وكيف تترجم هذه الرسالة إلى فعل دون التمسك بأبجدية شروط هذه الكينونة التي لا يمكن أن تكون فعالة دون العمل على امتلاك الوعي والتمكن من ترجمة معادلة المثلث الزمني إلى واقع معاش في حياتنا وبذلك يمكن المشاركة بجدارة في مقاومة السباق على سلب عقولنا القائم على قدمٍ وساق منذ الأزل فمتى ندرك استحالة الفصل بين العقل والعدل والحرية وكيف ندير علاقتنا بالتاريخ؟!.
أبجدية السير مكتوبة في ثنايا المدى
أولُ الغيث في القلبِ نور الهداية
قبلةُ العقل والعقلاء فتحٌ مبين
والله مفتاح كل البصائر
وكل العقول.