عرفت اليمن الظاهرة العُمرانية منذ وقت مبكر ونحن نلحظ أن الذاكرة الشعبية تختزن في دهاليزها الكثير من المعارف الهندسية وكذلك الكثير من التشريعات العرفية، تراكمت عبر الحقب والأزمنة المتعاقبة، وظلت هي الأكثر حضوراً في التفاعل الاجتماعي اليومي إلى زمن قريب ربما يعود إلى عقد تسعينيات القرن الماضي ولا نستطيع القول بغيابها الكلي إذ لاتزال ذات حضور تفاعلي في ريف اليمن وبعض مدنه وحضره من المدن الثانوية.
فالتشريع العرفي يحظر البناء في الأرض الزراعية ويحد من التوسع الأفقي فيها ولذلك حين نتأمل العمران القديم نجده يتمركز في الأماكن الصخرية أو الأرض البور غير القابلة للإنتاج الزراعي ويبدو أن هذه المعارف التي توازن بين البعد الحضاري والبعد الاقتصادي وتنظر إلى المستقبل بعين الاستحقاق لأجياله في أسباب ومنافع الحياة قد أصبحت طللاً في الذاكرة الاجتماعية المستلبة التي وقعت تحت تأثير الخطاب السياسي والإعلامي الذي يُعمّق ويجذّر من الشعور بالاغتراب للذات الحضارية اليمنية ويفقدها قيمتها الحضارية والمعرفية من خلال القفز على حقائقها الموضوعية، وهي حقائق كان بالإمكان تشذيبها وتنميتها وتحديثها والاشتغال على تكريسها والاعتزاز بها بدلاً من حالات القهر والشعور بفقدان القيمة أو الإيحاء بمثل هذا الشعور للذات الحضارية اليمنية، فالثورة التي تزايد الأنظمة المتعاقبة على حكم اليمن بها، لا يمكنها أن تكون هدماً ودوراناً في فراغ خارج دوائر التراكم المعرفي والسياق الحضاري لأنها بدورانها ذلك الذي تدعيه باسم التقدم تعمل على تجذير الاغتراب في الذات، والاغتراب بطبيعته شعور عدمي هلامي يشبه حالات التيه التي أصابت الأمم السابقة وقد عبر الأدب عن مثل ذلك الشعور في جل النصوص الإبداعية التي واكبت المسيرة الثورية اليمنية، فنحن نقرأ ذلك في نتاج عقد السبعينيات عند البردوني مثلاً وعند القاص والروائي محمد عبدالولي وقد كانت تلك النصوص تعبيراً صادقاً عن حالات الاغتراب للذات عن سياقها الحضاري والثقافي وتعبيراً عن صدمة حضارية لا تمتد من سياقها التاريخي بل كانت منفصلة عنه بغية تأسيس نفسها حيث كان المفهوم الثوري يقوم على هدم كل الماضي ليؤسس لنفسه وللحظته الجديدة التي يظن أنها هي الأصدق في التعبير عنه، ولعلنا نلحظ الآن أثر ذلك الشعور في المظاهر العمرانية الحديثة، حيث تشيع الفوضى الدالة على القلق النفسي والاجتماعي والحضاري، فالروح الممتلئة بالقيم الحضارية لا يمكنها أن تصنع الفوضى أو تنساق إليها بأي شكل من الأشكال بل الثابت شيوع القيم الجمالية في المظاهر العمرانية والبيئية لها، ولا يكاد المرء يلحظ في المظهر العام للمدن أي مظاهر سلوكية غير سليمة أو مشوهة أو غير حضارية، ومن هنا يمكن أن يُقال أن اختلال النسق الحضاري أحدث تشوهاً في بنية الذات وبالتالي في البنية العمرانية والاجتماعية والبيئية كما نجد ذلك في كل مدننا على امتداد الأرض اليمنية، ومثل ذلك التشوه لا بد أن يثير سؤاله الثقافي وسؤاله الحضاري ويصبح السؤال ضرورة سياسية تفرضها الحاجات الاجتماعية والأبعاد الحضارية في بعديها التاريخي والحديث وحين نضع السؤال على الطاولة يصبح التعدد في الرؤى سمة من سمات التنوع وقد نختلف ونذهب مذاهب شتى في التفكير وفي التنوع والتعدد ولكننا قد نتفق حول قضية جوهرية وهي كيف نجعل من صنعاء الحديثة على نسق يتوازى مع صنعاء القديمة وبالمعنى الأقرب كيف نحوّل صنعاء الحديثة تحفة فنية وحضارية تثير اهتمام العالم الذي تفاعل مع صنعاء القديمة ووضعها في قائمة تراثه الإنساني العالمي، فالتمدد الأفقي للمدينة والفوضى والعشوائية وسوء التخطيط العمراني وتردي الخدمات أصبحت سمات بارزة للمدينة الحديثة، كما أن غياب التفكير في مستقبل الأجيال وفي أمنها المائي والغذائي يضع المدينة في قائمة القضايا الوطنية الكبرى التي يجب مناقشتها بمسؤولية حضارية وثقافية وإنسانية وحقوقية.
والمتأمل في جغرافية صنعاء وفي زحف الكتل الخراسانية والإسمنتية على الأراضي الزراعية وتدمير كل مقومات الحياة يشعر بالأسى لغياب الاستراتيجيات ومناقشة البدائل، ووضع الحلول للإشكالات التي تواجه المزارع في المناطق المحيطة بصنعاء، فالتمدد الأفقي للمدينة يجعل الدولة عاجزة عن توفير الخدمات فضلاً عن تهديده للأمن المائي والغذائي للإنسان وحين تعمل الحكومة على تحديد سياساتها العمرانية في التوسع الرأسي وتشجيع رأس المال الوطني والمجتمع على ذلك، فهي تحد من ظاهرة الفوضى والعشوائية وتحد من عجزها في توفير الخدمات وتحد من ظاهرة التمدد الأفقي للكتل الخراسانية والإسمنتية التي تهدد المساحات الخضراء.
في كل بقاع الدنيا وفي الفكر الحديث لا تنشأ منطقة عمرانية جديدة إلا وفق سياسة عمرانية مدروسة وبعد أن يتم هندستها ورسم معالمها المعمارية وسبق التمهيد لها بشق الشوارع وتوفير كل متطلبات الخدمات الاجتماعية كالصرف الصحي والإنارة والهاتف وتحديد المساحات الخضراء والمدارس ودور العبادة والخدمات الصحية، والخدمات الثقافية مثل المكتبات العامة والمسرح والنوادي الرياضية وفق نمط معماري لا يتنافر عن طبيعته الطبيعية ولا عن سياقه الحضاري ولا عن روح الجمال وفلسفته اليمنية المحضة التي ظلت تتداخل في النسيج الوجداني الجمعي.
لقد عشنا نصف قرن أو تزيد من الفوضى والارتجالية ومن ملاحقة ضرورات المجتمع، وآن لنا أن نخلق ضروراتنا وفق رؤية استراتيجية تعي خطواتها المنهجية حتى نضيف إلى قيمتنا الحضارية والتاريخية قيمة أخرى جديدة تساهم في الشعور بالامتلاء الحضاري وتحد من شعورنا القاهر بالاغتراب.