تأسست جامعة الدول العربية أعقاب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبغض النظر عن كونها صنيعة بريطانية وفقاً لتصريحات أنتوني إيدن وزير خارجية بريطانيا، عام 1943، بأن بريطانيا لا تمانع في قيام أي اتحاد عربي بين الدول العربية، أو وفقاً لما قدمه وحيد الدالي (مدير مكتب أمين عام جامعة الدول العربية، عبدالرحمن عزام) في كتابه "أسرار الجامعة العربية" بأن ذلك غير صحيح، وحقيقة الأمر أنه أصدر هذا التصريح ليطمئن العرب على مستقبلهم بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت نفسه كان عبارة عن مزايدة سياسية اقتضتها ظروف الحرب بين ألمانيا وبريطانيا، وقد أعلنت الحكومة الألمانية على لسان هتلر، أنه في حالة كسبت ألمانيا الحرب، فإنها تضمن سلامة الدول العربية، وتؤكد وتؤيد استقلالها، وتعمل على إيجاد اتحاد في ما بينها، فقد أدرك العرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أن الاستمرار بتكريس التجزئة، وفرض سياسة الأمر الواقع، سيجعل الشعوب العربية ترزح تحت الاحتلال الأجنبي، ويصبح الحصول على الاستقلال صعباً، لذلك بدأ التحرك والمشاورات للبحث عن صيغة مناسبة لتوحيد الجهود العربية، وقد تم الاتفاق على توجيه مصر الدعوة إلى العراق وشرق الأردن والسعودية وسورية ولبنان واليمن، وهي الدول التي كانت قد حصلت على استقلالها، ولو أن ذلك الاستقلال لم يكن كاملا، وكانت الدعوة بقصد عقد اجتماع لممثلي تلك الدول، لتبادل الرأي في موضوع الوحدة.
صادقت على هذا البروتوكول 5 دول عربية في 7 تشرين الأول/أكتوبر عام 1944، ويعد هذا البروتوكول الأرضية التي بني عليها ميثاق إنشاء الجامعة، وفي 22 آذار/مارس عام 1945 تم التوقيع على الصيغة النهائية لنص الميثاق. ولكن هل التزمت جامعة الدول العربية بقضايا العرب؟
بقيت القضية الفلسطينية حاضرة دوما على جدول أعمال معظم القمم العربية، منذ القمة العربية الأولى عام 1946 التي أكدت عروبة فلسطين، بوضعها "القلب في المجموعة العربية"، وأن مصيرها مرتبط بمصير دول الجامعة العربية كافةً، معتبرة أن الوقوف أمام خطر الصهيونية واجب على الدول العربية والشعوب الإسلامية جميعا، وظلت مؤتمرات القمة العربية تؤكد خلال العقود الفائتة مركزية هذه القضية بوصفها قضية العرب جميعا، معتبرة أن النضال من أجل استعادة الحقوق العربية في فلسطين مسؤولية قومية عامة، وعلى جميع العرب المشاركة فيها.
إلا أنه في حقيقة الأمر وبتنفيذ الأنظمة الرجعية العربية دورها في الأجندة الصهيوأمريكية، لم تعد فلسطين قضية العرب المركزية، ومسؤولية قومية عامة، بل طغت عليها وخصوصاً في السنوات الأخيرة قضايا أخرى راحت تحتل موقع الأولوية، ولم يعد الخطر الصهيوني يمثل تهديدا للأمن القومي العربي، بل تم حرف البوصلة نحو مزاعم "الخطر الإيراني"...، وبدأت بوادر ذلك في قمة فاس العربية في المغرب عام 1982، بمبادرة الأمير فهد بن عبدالعزيز التي تضمنت اعترافا ضمنيا بالكيان الصهيوني كدولة، ومن بعدها قمة بيروت عام 2002 التي تبنت "مبادرة السلام العربية" التي طرحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز والتي اعتبرت أن انسحاب "إسرائيل" الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليها وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران عام 1967 تكون عاصمتها القدس الشرقية، هو شرط ومدخل اعتبار الصراع العربي الصهيوني منتهيا، ودخول الدول العربية في اتفاقية سلام بينها وبين الكيان الصهيوني، وإنشاء علاقات طبيعية معه في إطار هذا السلام الشامل.
وبالإمعان في بقية التفاصيل التي سنأتي على ذكرها لاحقاً عن كتاب شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد" الذي صدر عام 1993، أو المؤتمرات الاقتصادية التي تلت ذلك في الدار البيضاء في المغرب عام 1994، وفي عمّان 1995، وفي مصر 1996، إلى ورشة المنامة الاقتصادية، ومشروع نيوم، إلى محاولات تطويع الدراما ووسائل التواصل الاجتماعي وتفاصيل أخرى في تطبيع مشيخات الخليج مع الكيان الصهيوني بمجال الرياضة والسياحة والثقافة لتكون عوناً في غسل أدمغة الجماهير نحو تصفية القضية الفلسطينية، نجد أنها ليست إلا خطوات وتكتيكات مدروسة وممنهجة في إطار مشروع بيريز الذي دعا إلى قيام نظام إقليمي شرق أوسطي يقوم على أساس التعاون والتكامل بين العرب والكيان الصهيوني في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، وفي ما يلي التفاصيل:
1 ـ اعتمد بيريز في مشروعه على تحليل واقعي مفاده سقوط مضمون نظريات العمق الاستراتيجي، والاستراتيجية التقليدية القائمة على "الوقت والفراغ والكم" مع التطور التكنولوجي وتطور الصواريخ الباليستية للانتقال إلى أن الاقتصاد هو العقيدة البديلة، وبناء على ذلك كتب بيريز في كتابه: "يمكن لنا أن نبدأ في نقطة البحر الأحمر، فقد تغيرت شطآن البحر الأحمر مع الزمن، وأصبحت مصر والسودان وإريتريا تقع على أحد الجوانب فيما تقع "إسرائيل" والأردن والسعودية على الجانب الآخر، وهذه البلدان تجمعها مصلحة مشتركة، ويمكن القول إنه لم يعد هناك أسباب للنزاع، فإثيوبيا من بعد نظام منجستو وإريتريا المستقلة حديثاً تريدان إقامة علاقات سليمة مع جاراتهما، بما في ذلك "إسرائيل"، في حين أن مصر وقعت بالفعل اتفاقية سلام مع "إسرائيل"، أما الأردن والسعودية واليمن فتريد تأمين حرية الملاحة والصيد وحقوق الطيران"، كما كشف في كتابه كيف سيبدأ التطبيع الكبير عندما قال: "ويمكننا كخطوة أولى التركيز على القضايا الإنسانية مثل التعاون في عمليات الإنقاذ البحري والجوي وإقامة شبكة اتصالات للإنذار المبكر من المناورات البرية والبحرية، كما ويمكن الحفاظ على النظام الإقليمي من خلال المشاريع والأبحاث المشتركة، تطوير مصادر الغذاء من البحر، وكذلك السياحة، أما إقامة حلف استراتيجي فستكون خطوة ممكنة في مرحلة متقدمة"، وحدد ملامح ما يسمى "الشرق الأوسط الجديد" بقوله: "بالنسبة للشرق الأوسط فإن الانتقال من اقتصاد صراع إلى اقتصاد السلام سوف يعني حصر المصادر لتطوير بنية تحتية تلائم هذا العصر الجديد من السلام، وإن بناء الطرق وتمديد خطوط السكك الحديدية وتحديد المسارات الجوية وربط شركات النقل وتحديث وسائل الاتصالات، وتوفير النفط والماء في كل مكان، وإنتاج البضائع والخدمات عن طريق الكمبيوتر، سوف يفتح حياة جديدة في الشرق الأوسط".
2 ـ إذا ما دققنا النظر في سطور كتاب بيريز سنجد أن ما ذكره وضع تصورا دقيقا لما يدور في منطقتنا في وقتنا الحالي، بإعلان ولي العهد السعودي عن إقامته "مدينة نيوم" التي ستقع في الشمال الغربي للمملكة، وستضم أراضي مصرية وأراضي أردنية على مساحة 26 ألف كلم مربع، يخدم فقط مشروع شمعون بيريز وكل أحلامه الواردة في كتابه آنف الذكر، حيث ووفق ما تم إعلانه فإن "مدينة نيوم" ستعمل على مستقبل الطاقة والمياه ومستقبل التقنيات الجوية، ومستقبل العلوم التقنية، ومستقبل الترفيه، وهذه القطاعات ذكرها كلها بيريز في كتابه، ولا ننسى أنه في 2015 فازت مجموعة شنغهاي للموانئ بمناقصة دولية لتطوير ميناء حيفا لينتهي العمل به عام 2021، ليكون جاهزا لمد خطوط السكك الحديدية من الكويت والرياض، وجدير بالذكر أن 90% من مشروع السكك الحديدية موجود مسبقاً منذ أيام الدولة العثمانية، واستكماله لن يحتاج كثيرا من الجهود.
3 ـ إن عقد مؤتمرات القمم الاقتصادية التي ضمت وفودا من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والآسيوية والدول العربية على مستوى رؤساء دول وحكومات باستثناء سورية ولبنان، في الدار البيضاء عام 1994، وفي عمّان 1995، وفي القاهرة 1996، وفي الدوحة 1997 تحت عنوان عريض "التعاون الإقليمي والتنمية الاقتصادية"، وكذلك ورشة المنامة في البحرين عام 2019 التي دعا إليها جاريد كوشنر كجزء من مبادرة ترامب للسلام في الشرق الأوسط، والمعروفة باسم "صفقة القرن"، ليست إلا تكريسا لمشروع بيريز الذي قال في كتابه: "يجب إجبار العرب على سلام مقابل المساهمة في تطوير القطاعات الاقتصادية والتكنولوجية كمحفزات لقبول "إسرائيل"، هدفها النهائي هو خلق أسرة إقليمية من الأمم ذات سوق مشتركة وهيئات مركزية مختارة على غرار الجماعة الأوروبية".
4 ـ خطوات التطبيع العلنية الأخيرة التي بدأت بالإمارات والبحرين إلى أنظمة أخرى تقف في الطابور ليست إلا تنفيذا لرؤية بيريز الصهيونية الممتدة عبر الزمن على مراحل، والتي ترى بالنتيجة عدم جدوى المفهوم العسكري لضمان أمن الكيان الصهيوني، ويجب اعتماد طريق التكامل والاندماج في محيطها تحقيقا لأهدافها وبقائها كقوة عظمى تسيطر وتتسيد أمنيا واقتصاديا.
5 ـ في إطار هذه الرؤية تندرج استدامة الصراع الداخلي في ليبيا بين قوى مدعومة من أطراف دولية وفقاً لضابط الإيقاع الأمريكي، وحرب اليمن، واستمرار استنزاف سورية، ومزيد من تعقيد الوضع الداخلي اللبناني بعد حادثتي تفجير وحريق مرفأ بيروت، وسد النهضة الإثيوبي، وقلاقل العديد من الدول العربية... لتهيئة البيئة اللازمة لإتمام مشروع بيريز بانصياع ملوك وأمراء ورؤساء الأنظمة الرجعية للأوامر الأمريكية التي يصدرها ترامب على الإعلام أولا فيهرولون منفذين.
6 ـ في المقلب الآخر وأمام حلف الحرب الأمريكي ـ "الإسرائيلي" الخليجي هناك حلف إقليمي نواته إيران وسورية وقوى المقاومة في العراق ولبنان واليمن وفلسطين المحتلة، بات أكثر قوة وتماسكا بإمكانيات تقنية، عسكرية، استخباراتية وعقيدة وإرادة قتالية يهدد وجود الكيان الصهيوني الذي مازال يقف على "إجر ونص" منذ قرابة شهرين، وعروش الأنظمة الرجعية التي أصبحت ضمن بنك أهداف حلف المقاومة إذا وقعت الواقعة وكانت الحرب الكبرى.
وأخيراً تتحدث الوقائع عن انهيار منظومة القطب الواحد، وبداية تبلور عالم جديد بتحالفات إقليمية ودولية سياسية اقتصادية عسكرية من نوع جديد لن يكون جيش واشنطن الجديد المتقدم عثرة في إرساء ركائزها.
أكـاديمـية وكاتبــة سـوريــة.
نقلا عن : لا ميديا