منذ ستينيات القرن الماضي احتدم التنافس الإقليمي والدولي للوجود في البحر الأحمر، ووقعت اليمن ضحية تلك المطامع للسيطرة على أهمّ الموانئ البحرية، والممرات المائية التي تربط شرق آسيا بالقرن الأفريقي، والشرق الآسيوي بالغرب الأوروبي والأمريكي ضمن كلمة سر أساسية هي أمن الكيان الصهيوني، وارتباط أطماعه في البحر الأحمر بالأهداف الاستعمارية الغربية، والتي تعود إلى الأيام الأولى لإنشاء كيان العدو الصهيوني في قلب الوطن العربي، واستمرار دعمه لعرقلة نهوض العرب والحيلولة دون تقدّمهم ووحدتهم.
ركز الكيان الصهيوني جهوده ومنذ نشأته في نظرية أمنه القومي على البحر الأحمر بالرغم من قصر ساحله عليه والذي يبلغ طوله (11.2 كيلو متر)، وذلك بالسيطرة على جميع منافذه لإقامة ما يسمّى (إسرائيل الكبرى) الممتدة بحسب زعمهم من الفرات إلى النيل، وقد عبّر عن ذلك ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وأبرز قادته بقوله عام 1949م: «إنني أحلم بأساطيل داوود تمخر عباب البحر الأحمر».
وفي إطار هذه الرؤية الصهيونية قال كانستلون قائد البحرية الصهيونية في خمسينيات القرن الماضي: نحن نملك أسطولاً بحرياً يعمل في جميع موانئ العالم، وسيرتفع عدده عام 1956م، ولهذا فعلينا أن نعدَّ بالقوة العدة لمستقبل تستطيع فيه أساطيلنا البحرية والحربية أن تحطم الحصار المفروض علينا، وأن نفرض الحصار بدورنا على بعض الدول العربية بشكل أقوى مما فرضوه علينا، أيّ باختصار مطلوب منا أن تكون لدينا خطة نستطيع عن طريقها أن نحوّل البحر الأحمر إلى بحيرة يهودية بالتدريج».
من هنا كانت السيطرة على البحر الأحمر هدفاً للاستراتيجية الصهيونية، وما تشهده الدول العربية في شمال أفريقيا من حروب وفتن وأزمات وانقسامات يندرج ضمن تلك الاستراتيجية، وبشكل أساسي لنهب ثرواتها واستهداف أمنها القومي والإمعان في التطبيع مع كيان العدو الصهيوني للسيطرة على قرارها السيادي وخاصة مصر والسودان للحيلولة دون انضمامها إلى محور حلف المقاومة نحو بناء المشروع القومي العربي.
بدأ الاهتمام الصهيوني بأفريقيا وخاصة ارتيريا منذ وقت مبكر، ففي عام 1920م وخلال فترة الاستعمار الإيطالي أقامت شركة زراعية صهيونية تدعى SIAوبرأس مال يهودي مشروعاً غرب اريتريا في منطقة القاش، ثم اخترقت الثورة الاريترية عام 1970م بواسطة القاعدة الأمريكية (كانيوا ستيشن) في اسمرا عن طريق شخص يدعى (اسياسي أفورقي) للحيلولة دون انتصار الثورة الاريترية ذات التوجه الإسلامي والمدعومة من بعض الدول العربية، وذلك خوفاً من أن يصبح البحر الأحمر بحيرة عربية، ولضمان السماح للكيان الصهيوني ببناء القواعد العسكرية، وإبعاد اريتريا عن الانضمام إلى جامعة الدول العربية.
كما احتلّ كيان العدو الصهيوني بعد إعلان دولته المزعومة عام 1948م قرية أم الرشراش المصرية (مرفأ إيلات) عام 1949م لتكون مدخله إلى خليج العقبة والبحر الأحمر لإقامة العلاقات مع الدول الأفريقية والآسيوية.
ونجح في استثمار علاقته مع إثيوبيا قبل انفصال إريتريا عنها، بالحصول على جزيرة دهلك في البحر الأحمر عام 1975م ليقيم أول قاعدة عسكرية، وتلا ذلك استئجار جزيرتي «حالب وفاطمة»، ثم سنشيان ودميرا.
ولم تتوقف الأطماع الصهيونية عند هذا الحدّ بل كانت العين على اليمن لموقعها الجيوسياسي والجغرافي المتميّز لاستكمال تأمين الكيان الصهيوني جيوسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، وتمدده وهيمنته إقليمياً، واختراقه لمنظومة الأمن القومي العربي، فتمّ خلال حرب الخليج الأولى زراعة ألغام بحرية في الممرّ الدولي تهدف إلى التشكيك بقدرات اليمن في حماية ناقلات النفط العابرة من مضيق باب المندب، بهدف إيجاد ذريعة لإبقاء التواجد العسكري الأجنبي في الجزر اليمنية بذريعة حماية السفن المارة وتقديم خدمات الإنقاذ وتسهيل مرورها.
وفي عام 1995م وبإملاء ودعم من الكيان الصهيوني قامت إريتريا باحتلال جزيرة حنيش اليمنية، لتشهد بعدها منطقة جنوب البحر الأحمر نشاطاً عسكرياً للكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية مع اتصالات سرية صهيونية ارتيرية حول جزيرة حنيش بهدف إنشاء محطة مراقبة لاسلكية فيها لمراقبة السفن في الممرّ إلى توطيد علاقتها بإريتريا لما تملكه من موقع استراتيجي يضمن اتصالات بحرية وجوية بأفريقيا والشرق الأقصى.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، عززت الولايات المتحدة الأمريكية ثقلها في منطقة البحر الأحمر بحجة حماية طرق الملاحة الدولية في إطار حملتها على ما سمّي (الحرب ضدّ الإرهاب)، ولم يكن الكيان الصهيوني بعيداً عن هذا المخطط بل في قلب تفاصيله، فأصبح هناك تمركز صهيوني إلى جانب التمركز الأمريكي في أرض الصومال وجيبوتي، وخصوصاً بعد تفجير الفندق المملوك للكيان الصهيوني في مومباسا في كينيا، مما أعطاه ذريعة البقاء في البحر الأحمر والقرن الأفريقي لتوظيف كلّ التجهيزات المستحدثة بحجة مواجهة الإرهاب، وما الخط الساحل الذي نفذ في اليمن بعيداً عن المدن والقرى الساحلية إلا ليسهل انتشار أي قوى غازية من البحر، والذي كان مسرحا لمعركة الساحل الغربي «معركة كسر العظم» عام 2017م لكسر إرادة الشعب اليمني وتجويعه وحصاره وجعله تحت سلطة الأمر الصهيوني والأمريكي والسعودي والامارتي.
ويكتمل سيناريو حلم بن غوريون ورؤية كانستلون بعدوان التحالف (عاصفة الحزم) عام 2015م على اليمن بقيادة السعودية والإمارات بإملاءات ودعم عسكري استخباراتي صهيوني بريطاني أمريكي للسيطرة على مضيق باب المندب والسواحل والجزر اليمنية، وبمسارعة الولايات المتحدة الأمريكية وقبلها الإماراتية للتواجد وإقامة القواعد العسكرية في الجزر اليمنية وأبرزها أرخبيل حنيش وميون المشرفة على ممرات الملاحة الدولية، وفي ما بعد جزيرة سقطرى للسيطرة عسكرياً ونارياً على الممر الدولي للملاحة البحرية بين شرق آسيا وأفريقيا، وبالتالي السيطرة على أربعة من أهمّ المضائق المائية في العالم، وهي مضيق هرمز ومضيق باب المندب وقناة السويس ومضيق ملقا بين إندونيسيا وماليزيا، وليس ببعيد عن ذلك انتقال جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية، وإطلاق رؤية مشروع نيوم وربطه بمدينة شرم الشيخ المصرية ضمن أجندة صهيونية بتعاون إقليمي عسكري اقتصادي يرغب الكيان الصهيوني بتعزيزه مع دول أنظمة الرجعية العربية بعد إتمام السيطرة والهيمنة على اليمن.
إلا أنّ اليمن عبر التاريخ مقبرة الغزاة وعصيّ على التركيع والهيمنة، ولذلك وخلال سنوات العدوان وفي مسار تصاعدي تمّ تطوير الامكانيات العسكرية، وتنامي قدرات الردع للجيش اليمني الوطني واللجان الشعبية لمواجهة هذا العدوان، وتحرير كامل التراب اليمني بالعديد من معارك التحرير وعمليات توازن الردع التي استهدفت أهدافاً نفطية واقتصادية شرق وغرب المملكة السعودية، ومع استمرار السعودية وحلفائها في عدوانهم وحصارهم على اليمن انطلقت عملية توازن الردع الرابعة في 24 يوليو عام 2020م بعدد كبير من الصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيرة الهجومية، وعلى خلاف عمليات توازن الرعب الثلاث السابقة فقد طالت هذه المرة صواريخ قدس وذو الفقار وطائرات صماد 3 المسيّرة مواقع ومقرات عسكرية وسيادية أكثر تحصيناً، ومتباعدة في نطاقها الجغرافي مستهدفة وزارة الدفاع السعودية ومقرّ الاستخبارات وقاعدة سلمان الجوية في العاصمة الرياض المليئة بالخبراء والجنود الأمريكيين، بالإضافة إلى أهداف عسكرية في نجران وجيزان، ومخازن الأسلحة ومرابض الطائرات في قاعدة خالد الجوية في خميس مشيط، ويتمّ تحديد هذه الأهداف وأولويات الضربات بحسب أهميتها، وما زالت العملية في بدايتها مع وعود باستمرار ردّ مزلزل في حال واصلت قوات التحالف عدوانها وحصارها على الشعب اليمني الذي يعاني من المجاعة وانتشار الأوبئة.
وبكلمة أخيرة باتت القوات المسلحة اليمنية قوة لا يُستهان بها، فرضت وجودها في ساحة المواجهة، وانقلبت من الدفاع إلى الهجوم، ومرة جديدة ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات، وقد تكون القوات المسلحة اليمنية ويقيناً جزءاً من محور حلف المقاومة تستهدف عمق الكيان الصهيوني في حال اندلعت الحرب الكبرى، حرب زوال كيان العدو الصهيوني.