تفرض طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية وتطوراتها جملةً من الاشكالات والصعاب التي تواجه المجتمعات وبالذات أثناء دخولها مع بعضها البعض في مهام وأعمال تعاقدية بغية تحقيق مصالح مشتركة ولذلك يترتب على أي عمل يقوم به الفرد أو الجماعة حقوق والتزامات ومسؤوليات ، وإزاء ذلك لا بد من وجود سلطة معنية تقوم بواجب حماية حقوق الإنسان وتحمي حريته وكرامته اعتباراً لقوله تعالى & وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ &
وفي مقابل ذلك أيضاً مؤاخذة الجماعة والأفراد وتحميلهم واجبات ومسؤوليات ، فالإنسان مراقب ومحاسب على عمله حقيراً كان أو جسيماً قال تعالى & فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ & وهنا إشارة وتأكيد إلى أن المرء مجزي على أعماله ومحاسب على أفعاله حتى على مستوى أصغر الماديات والمعنويات ، ولذلك يجب علينا أن ندرك أن وجودنا في هذه الحياة ليس لعبادة الله بالمعنى الظاهري فقط وإنما يتجه بنا عمق اللفظ والمعنى إلى ما هو أبعد من ذلك ألا وهو إعمار الأرض وإقامة شريعة الله فيها ، الحكمة من وجودنا في هذه الحياة ليس عبثاً أو لهواً وإنما تتجسد في العمل الصالح وتنفيذ أوامر الله بإقامة العدل والاحسان وحماية حقوق الإنسان وحرياته
قال سبحانه & أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ &
فوجود الإنسان في هذه الحياة إنما لحكمة إلهية بالغة وليس الخلق مسألة مزاجية أو عبثية ،
كان إيجاد الحياة ليحيى الناس حياةً كريمةً عزيزة فيها الجزاء والحساب والأمر والنهي وفيها الثواب والعقاب، ولذلك خافت الملائكة من أن تسود الفوضى والإفساد حين جعل الله في الأرض خليفة ، فقال تعالى على لسانهم :
& أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ & ولذلك قُدر للإنسان أن يكون مشاركاً في بناء الأمة وأن ينتصر للحق ولمبادئ العدالة وأن يبني مقومات الحياة الاجتماعية السليمة على أساس من المحبة والألفة والتعاون وحب الآخرين وإيثارهم قدر المستطاع وحسب الأحوال والابتعاد عن البغضاء والشحناء والعداوات وإثارة الفتن وإشاعة الفوضى ، فالحياة لا تستقيم إلا بمواجهة الحق للباطل وسيادة شرع الله على شريعة الغاب ووقوف المحسن ضد المسيء وإقامة العدل والإحسان والقضاء على الظلم والطغيان
ولذلك فإن المجتمع مجبولٌ عليه منطقاً وفطرةً بأن يتعايش مع بعضه البعض وأن يتجاور وأن يتعامل بالصدق وأن يوفي بالعهود والعقود فيما أوجبه الناس على أنفسهم فيما يتعلق بالمعاملات سواءً كانت تجارية أو سكانية أو اقتصادية أو مدنية ،
ومن الطبيعي أن يدخل الناس في خصومات متعددة ومتنوعة بأن يسود تلك المعاملات إشكاليات يتمثل بعضها في نزع الثقة من أحد الأطراف من الآخر بقصد أو بدون قصد طمعاً في شهوات الدنيا أو التعدي على ملك الغير أو نكران الحقوق أو عدم ردها وذلك بسبب طبيعة النفس البشرية البعيدة عن القيم والتي ألفت على حب المال والجاه والتسلط والنفوذ.
وبناءً على ذلك لا بد وأن تتوفر لدى المجتمعات مؤسسات عدلية في الدولة أو سلطة قضاء أو هيئة حكم تعمل على حماية الحقوق والحريات وتسعى إلى أن يعيش الانسان حراً كريماً ينشد العدل والسلام والمساواة ويأبى الضيم والاستضعاف والقهر والعبودية والارتهان للمخلوق ولكي يتحقق ذلك لا بد وأن توجد تشريعات وقوانين يكون لها المرجعية في تنظم شؤون الناس وحياتهم ومعاملاتهم ليقوم القضاء باتخاذ تلك التشريعات والقوانين منهجاً ووسيلةً لإحقاق الحقوق وإقامة العدل والمساواة وسيادة القانون وتطبيقه ولاكتمال المنظومة القضائية والتي يتحقق بها العدل يجب أن يتوفر مع ما سبق ذكره رجال القضاء الذين يطبقون شرع الله وتنفيذ أحكامه وحين الحديث عن القضاة فإننا نعني من يتسمون بالشخصية القوية المستقلة و النزاهة والحيادية والكفاءة والالمام بالتشريعات والقوانين والذين توكل إليهم مهام تطبيق القوانين وإصدار الأحكام القضائية العادلة دون أي اعتبار لاملاءات أو تدخلات تنتهك استقلالهم وتعمل على انحرافهم وتُغير مجرى العدالة أو تؤثر عليها وبالتالي المساهمة في تعزيز نشر الفوضى والفتن بين الناس فليست المادة التي تشير إلى استقلال القضاء مجرد فقرة عابرة أو نص قانوني دون تطبيق وإنما تعني فعلاً أن يكون القضاء مستقلاً تماماً عن أي سلطةٍ أخرى في الدولة سواءً كانت تشريعية أو تنفيذية فليس جهاز القضاء وزارة في حكومة وليست قراراته وأحكامه مرهونة بمرسومٍ ملكي أو قرارٍ رئاسي ، إنما القضاء رسالة سامية وأهداف نبيلة تُحقق مبادئ العدالة والأمن والاستقرار، ولذلك يجب تعزيز الجهود الرسمية والشعبية سبيلاً لتحقيق استقلال القضاء قولاً وفعلاً وإرادةً .