في ستينيات القرن الميلادي المنصرم – وبالتحديد عام (1962م) – شهدت اليمن قيام ثورة 26 سبتمبر، التي مثلت حدثاً تاريخياً هاماً بغض النظر عن دوافع قيامها أو الخلفيات السياسية والاجتماعية لقيامها، فقد كوّنت منعطفاً هاماً ترتّب عليه الكثير من التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستجدت في كل منطقة جغرافية الكثير من الأحداث التي تتناسب مع أهمية تلك المنطقة وتأثيرها الجغرافي والبشري، بحسب التمخضات السياسية التي عمّت كافة مناطق اليمن الشمالي في ذلك الوقت، وتمثل ذلك في الصراع السياسي (الجمهوري-الملكي)، وظهر على الساحة السياسية مؤيدون لجانب ضد جانب وكان ذلك التأييد متمثلاً في نواح عديدة، عسكرية وطائفية ومناطقية، مما استدعى التدخل الخارجي من طرف لحسم الموقف لصالحه، وليس أدل على ذلك من التدخل المصري في اليمن ونشوء صراعات عسكرية وصل فيها الأمر إلى حد قصف الكثير من المساجد بالطائرات (وأكبر شاهد تاريخي قصف مسجد بيت الخزان الذي سمي في ما بعد بالجامع المقدَّس) وسقوط عشرات الشهداء، بحجة الدفاع عن الثورة والقضاء على رأس الملكيين من قبل الجمهوريين، إلى أن وصل الأمر إلى الفرز الطائفي عرقياً ومذهبياً وتصفية الخصوم لا لسبب سياسي أو اختلاف رأي بل بحجة حمل ألقاب معينة ليس إلا.
ومن هنا دَبَّ الخوف والذعر في كثير من المجتمعات، فاختفت شخصيات في مجتمع معين لتظهر شخصيات في مجتمع آخر، حتى أن الكثير من الشخصيات التي تفاجأت بتلك المآسي وتبخرت أحلامها التي كانت تطمح إليها كانت تُجاري الثوار وتتناغم معهم في الإطار العام، لكنها كانت تُخفي الكثير من الآلام والإحساس بالقهر الذي وصل إليه الأمر، وحتى لا نتيه في تفاصيل تُخرجنا عن وجهتنا الأساسية في هذه الأسطر، أضرب مثلاً بمدينتي المحابشة/حجة التي شهدت الكثير من المتغيرات والأحداث عقب ثورة 1962م وفي الأيام الأولى منها.
ففي خضم ذلك تشرفت تلك المدينة بقدوم السيد/ يحيى بن محمد المنصور(رحمه الله) وهو أبو الأستاذ الأديب الراحل/ محمد يحيى المنصور (رحمه الله)، قادماً من منطقته «حبور»، فطاب له المقام في «المحابشة»، وبلطف شخصيته استطاع أن يكوّن علاقات أخوية مع الكثير من أفراد وأسر المحابشة، ومن تلك الأسر «أسرة آل الخزان» حيث تزوج منهم بالسيدة الفاضلة/ فاطمة بنت يحيى بن حسين الخزان «عافاها الله»، و «حسين» هذا هو جدي الخامس، وأم السيدة فاطمة هي السيدة الفاضلة/ فاطمة الشهاري المعمّرَة التقية الفاضلة، وفي عام 1382هـ الموافق (28/فبراير/1965م) ولد الأستاذ الأديب/ محمد يحيى المنصور، وفي عام 1967م ولد أخوه «إبراهيم» وهما شقيقان ولهما إخوة من أبيهم وهم (المطهر، عبدالحفيظ، عادل) و «أحمد» الذي توفي عام 2000م، بعد خمسين يوماً من وفاة والده إثر معاناته من مرض في القلب «رحمهم الله».. وترتيب الأستاذ «محمد» هو الثاني بعد «المطهر» في الإخوة الستة.
وبعد انفصال والدته عن والده – الذي استقر في صنعاء – بقي وأخوه «إبراهيم» مع والدته في مدينة «المحابشة» في كنف جده السيد المرحوم/ يحيى حسين الخزان، حيث كانت دراسته حتى الثانوية.
في مطلع الثمانينات قرر مع أخوه وأسرته «والدته وجدته» شراء بيت في صنعاء «قاع البونية» لتتسنى له الدراسة الجامعية، حيث تخرج من كلية الآداب/لغة عربية عام (1991-1992م)، وليتسنى له متابعة المشهد الثقافي في صنعاء، حيث سهولة الحصول على الصحف والمجلات والمكاتب وحاول أن يحصل على وظيفة في صحيفة الثورة، ليمارس هوايته في كتابة المقال ومحاولاته الشعرية.
وكنت كلما أسافر إلى صنعاء استغل ذلك لزيارته والمقيل معه، وفي هذه الفترة كان يتبرّم من بعض القائمين على صحيفة الثورة ويشكو من تعنتهم في عدم قبوله موظفاً رسمياً بدرجة وظيفية لسبب أو لآخر، وكانت تلك الفترة هي فترة رئاسة الأستاذ «محمد الزرقة» لصحيفة الثورة.
ومن هنا تسنى لي متابعة المسار الشعري والأدبي للأستاذ / محمد المنصور، وهذا المسار هو الذي اخترت الكتابة فيه عن الأستاذ / محمد المنصور، فقد كان ديوان مَقِيْلِهِ البسيط، ملتقى أدبياً وثقافياً لكثير من شعراء ومثقفي تلك المرحلة.
كان الأستاذ / محمد المنصور قارئاً نهماً لمختلف الصحف والمجلات السياسية والأدبية ومتابعاً جيداً لمفكرين وشعراء يمنيين وعرب وأجانب راجت أفكارهم وكتاباتهم ورؤاهم في تلك المرحلة، فهي مرحلة استقى منها وتزود بكثير من الأفكار والأطروحات والرؤى التي رفدت تجربته الشعرية في مجال مدارس الشعر الجديدة والمتجددة، فصدر عن مركز الدراسات ديوان صغير يحمل شيئاً من بداياته الشعرية وبدايات مجموعة من زملائه بعنوان «وهج الفجر»، قدم لهذا الديوان الدكتور/عبدالعزيز المقالح.
وفي ديوان مقيله تعرفت على الكثير من الشعراء والأدباء والمفكرين والسياسيين، بمختلف المشارب وشتى الاتجاهات الأدبية والحزبية.
كان الأستاذ/ محمد المنصور محاوراً لبقاً في مختلف أشكال الفكر والأدب والشعر، كما كان مستمعاً جيداً لاستيعاب الآراء المخالفة، ففي مجلسه ذلك خضت معه ومع المثقفين معه في رؤاه، مئات المعارك الأدبية والفكرية، فما كانت تخلو جلسة من نقاش ثقافي ونقاش أدبي عن الشعر ومدارس الشعر الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والجديدة والأجد، عن قديمه وحديثه عن رواده وأساليبه عن صوره الجديدة والقديمة، عن العمودي والتفعيلي وقصيدة النثر عن النقد القديم والحديث وعن ثوابت الشعر ومتغيراته وأسراره.
كان الأستاذ محمد المنصور منذ بدايات الثمانينات حتى العام 2003م، متأثراً بمجموعة كبيرة من المفكرين والكتاب أتذكر منهم (حمد الجاسر، ادوارد سعيد، ابن مضاء القرطبي، محمد عابد الجابري، رولان بارت، تِي.إس إليوت، سيجموند فرويد، دي كيشوت)، كما كان يميل إلى قراءة مجموعة من الشعراء أمثال (البردوني، المقالح، بدر شاكر السياب، صلاح عبدالصبور، أدونيس، محمد بِنِّيسْ، سعدي يوسف، أمل دنقل، والحلاج).
كان الأستاذ الأديب الشاعر/ محمد المنصور «رحمه الله»، يملك «كاريزما» عالية وروحية جذابة، فعزز تلك «الكاريزما» بكونه قارئاً مخلصاً للوصول للهدف الذي يسعى إليه وبكونه متحدثاً لبقاً يمتاز بمزاج مستقر قد يكون حاداً إذا أمكن استفزازه فتتحكم فيه مشاعر طيبة وقلب ودود، فقد استطاع بمواصفات شخصيته وبذل الكثير من الجهود من تكوين محور ثقافي أدبي مع رفاقه، كان أفراد ذلك المحور يدأبون ويحاولون ويكدحون للوصول إلى كتابة نصوص شعرية مثالية (بمعاييرهم) تقترب في جودتها من أداء رموز تأثروا بها وإبداعات أحبوها، وتجارب تعشّقوها.
كان «محمد المنصور» الأكثر نضالاً وإخلاصاً لما يريد، فاستمر تنظيره لفكرته ما يقارب العقدين من الزمن ليكون الشاعر الوحيد الذي استطاع أن يصل إلى مبتغاه في كتابة النص النثري الطويل بتجربة واعية صقلتها المحاولات الطويلة ودفعها التصميم والإرادة وأنضجها الإصرار، فكتب الشاعر ديوانه الذي كان يتمناه «سيرة الأشياء» الذي صدر عام 2003م.
وتتابعت الجوائح السياسية القبيحة لتضرب ضربتها في تفكيك ذلك المحور الشعري الأدبي، وتُرك «المنصور» قائماً وحيداً في محرابه، ولا أبالغ إن قلت إنه الشاعر الوحيد الذي أحب هذا اللون من الشعر وناضل من أجله وكتب حصاده في ديوانه الوحيد «سيرة الأشياء».
ومن هنا أعلل اختياري للكتابة عن هذا الجانب من حياة الأستاذ محمد المنصور، لأنه الجانب الذي ستعبُر فيه شخصيته إلى الآتي من الزمن، بينما كل المناصب التي تقلدها وعمل فيها لم يكتب لها الصمود والاستمرار، إلا بما قدمت من مثالية وإخلاص في حمل المسؤولية وأمانتها.
وحتى لا أنسى، فالأستاذ/ محمد المنصور تزوج في عام (1990م) بامرأة من أخواله «آل الخزان» كانت ممن أعانته على الحياة وممن يعود إليها الفضل بعد الله في كثير من نجاحاته، وهي السيدة/ رقية محمد حسن الخزان (وهي بنت عمي مباشرةً)، وأنجب منها أولاده (فاطمة، رؤى، غدير، بتول، أحمد، علي)، أسأل الله لهم جميعاً الصبر والسلوان والتوفيق في الحياة.
رحمة الله تغشى الأستاذ الأديب/ محمد يحيى المنصور، وأن يجزيه خير الجزاء، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
من قصيدة »حنينٌ لم يجفْ«
من ديوانه (سيرة الأشياء):
لأنَّ الوقتَ منشارٌ
تجرحنا السنون
يرحل الموتُ عن العالم
حين لا يهتم به أحد
رئتايَ مخبأٌ لِروائحَ ذابلة
تنطفئُ الشمعةُ لتفسح مكاناً للظلام
الجرحُ طابعُ بريدٍ لرسالةِ الألم
كل جرحٍ يذكّر صاحبه بأمنية ما
الجرحُ قاموسُ وجعٍ مفتوح
العشقُ هودجُ الذكريات.