للمرة الأولى تواجه المملكة السعودية الوهابية خطراً جدياً على وجودها، فدور المملكة في نشر الإرهاب لم يعد في الإمكان القبول به، حتى لو استخدمته الولايات المتحدة ووظفته لتحقيق مصالحها، فأمريكا مثل أنثى عنكبوت «الأرملة السوداء»، التي تقتل الذكر وتأكله بعد أن يؤدي دوره في تلقيحها، والوهابية انتهى دورها الوظيفي، وأصبحت عبئاً حتى على العائلة الحاكمة في السعودية، لكن العلاقة بين آل سعود والوهابية مثل التوائم السيامية (الملتصقة)، التي يصعب فصلها، وأي تحجيم للمؤسسة الوهابية في السعودية سوف يلحق ضرراً كبيراً بالأسرة الحاكمة، وستواجه غضباً وتمرداً من مؤسسة متغلغلة في المملكة، لها نفوذها وتأثيرها، لكن الوهابية عصية على التجديد أو الاستمرار بحكم طبيعتها الجامدة والرجعية، وفتاواها وسلوكها وأفكارها لم تعد قابلة للبقاء، فهي معادية للعلم والحياة العصرية، بل معادية للإنسانية، ولأنها الأم الشرعية لمعظم التنظيمات الإرهابية، التي نشرت الرعب والموت وأسالت أنهاراً من الدماء في كل أنحاء العالم، فإن القضاء عليها أصبح مطلباً عالمياً، حتى أن حلفاء آل سعود لم يعد في مقدورهم الدفاع عن المملكة التي قدمت لهم خدمات جليلة، منها الحرب على الاتحاد السوفييتي وحروب أسعار النفط وحتى استيلاد «داعش» وأخواتها، والمشاركة في التآمر على أي دولة تعادي «إسرائيل»، حتى لو كانت في أمريكا اللاتينية.
إن مبادرة التحديث المنسوبة لمحمد بن سلمان ابن الملك، وولي ولي العهد ووزير الدفاع لا يمكن عدّها خطوة جدية، لأنها مجرد ورقة هدفها امتصاص غضب أوروبا الناجم عن تحميل الوهابية وزر العمليات الإرهابية على أراضيها. وفي المقابل فإن الطبقة الوسطى وخريجي الجامعات الأجنبية لم يعد في إمكانهم العيش تحت نير الحكم الوهابي، وغياب القانون والدستور والأحزاب والانتخابات والمجالس التشريعية، وغيرها من مؤسسات الدولة الحديثة، وهذه الطبقة المثقفة يزداد ثقلها الاقتصادي والفكري داخل المملكة، وهي تحمل كل عوامل التمرد.
أما معتنقو المذاهب الأخرى فهم يلقون معاملة فظّة، لا تكتفي بتهميشهم، ومنعهم من الكثير من الوظائف والخدمات، بل يجري تكفيرهم علناً، وبفتاوى من كبار رجال الدين في المملكة، ويتعرضون للملاحقة من أجهزة الأمن وتفجيرات وهجمات الجماعات التكفيرية، وبلغ غضبهم حدّ كسر حاجز الخوف والخروج في مظاهرات، لم تشهد لها المملكة مثيلاً.هذا جانب من التحديات الخارجية التي تواجهها المملكة الوهابية، والتي زاد من خطورتها سياسة المملكة في إغراق الأسواق بالنفط لخفض سعره، للإضرار بخصومها من الدول المنتجة مثل روسيا وإيران والعراق وفنزويلا، لكنها تدفع الثمن الأكبر لخفض الأسعار، وباتت تعاني أزمات اقتصادية دفعتها إلى رفع أسعار الكثير من الخدمات.
لكن أخطر ما تواجهه المملكة هو طوق الكراهية الذي يحيط بها من كل جانب، حتى أن دولة الإمارات بدأت تنأى بنفسها عنها، خاصة مع تزايد خسائرها في اليمن، واستعانة المملكة بمنتمين إلى جماعة الإخوان، التي تثير مخاوف دول الخليج من انتشار أفكارها ومنتسبيها، كما اعتمدت قطر سياستها الخاصة، وتثير معها المشكلات في أكثر من مكان، وآخرها اتصال أمير قطر بإيران، والسعي لتطبيع العلاقات معها، أما الكويت فتبتعد أكثر فأكثر عن سفينة المملكة المترنحة وسط أمواج العنف والحروب، وتخشى أن تصاب بشظايا سياسة التفجير وإشعال النيران التي تنتهجها المملكة.
سلطنة عمان ابتعدت كثيراً عن المملكة، وتحرص على اتّباع سياسة متوازنة، وترتبط مع إيران بعلاقات وثيقة، ولا يبقى للمملكة من صديق حميم سوى ملك البحرين، بحكم اعتماده على المملكة في تأمين حكمه، في مواجهة شعبه الذي يطالب بعدد من الإصلاحات، بوسائل سلمية، لكنه يواجه كل أشكال القمع والتنكيل، ووجود قوات درع الجزيرة.
المصدر الأكبر لنيران الكراهية يأتي من اليمن، التي يتعرض شعبها للقصف بكل أنواع الأسلحة كل يوم، وتتدفق منها أنهار الدماء، فلم تترك المملكة مكاناً لم تقصفه، بما فيها المدارس والمستشفيات والأسواق والطرق والمساكن وحتى دور حضانة الأطفال.
كان محمد بن سلمان يعتقد أن الحرب على اليمن مجرد نزهة، لأن الجيش اليمني ضعيف التسليح، بينما المملكة احتلت المركز الأول عالمياً في استيراد السلاح، لكنها فوجئت بإرادة الشعب اليمني، وصلابة المقاتل اليمني ومهاراته، ولم تنجح المملكة رغم استئجار الجيوش والمرتزقة من كل قارات العالم في دخول الهضبة اليمنية، وتتعرض قواتها لخسائر جسيمة كل يوم، خاصة مع انتقال المعارك إلى داخل أراضيها.
أما العراق فهو المرشح للصِدام مع المملكة، التي لم تكتف بدعم الإرهابيين الدواعش الذين اجتاحوا أراضيه، ودمروا وذبحوا وفجروا وأحرقوا، وارتكبوا أشد الفظائع في التاريخ المعاصر بحق سكانه، وإنما تتدخل في شؤونه، وتحاول إشعال الفتن المذهبية، وهو ما تسبب في أزمات دبلوماسية، مرشحة للتفاقم، فالعراقيون يحمِّلون المملكة وزرَ جرائم «داعش»، والمملكة تريد عراقاً ضعيفاً وتابعاً ومفككاً، والصِدام بين البلدين يكاد يكون حتمياً في ظل تمادي السعودية في جرائمها ضد العراق.
الأردن لم يعد متحمساً للسير في ركاب المملكة، فهو يستشعر الخطر من المغامرات التي سيدفع جزءاً من ثمنها، وقد تكلفه غالياً، سواء مع تنامي الجماعات الإرهابية داخله، أو تورطه في الحرب على سورية والعراق، والتي لا تسير وفقاً للأهواء السعودية.
أما المشكلات مع مصر فقد بدأت تطفو على السطح، رغم محاولة النظام المصري استرضاء السعودية لضمان استمرار المساعدات الاقتصادية، لكن يبدو أن المطالب السعودية من مصر تفوق قدرتها، وتلحق الضرر بأمنها القومي، ولا تريد أن تتورط في الأوحال التي تخوض فيها المملكة، خصوصاً في الحرب على سورية، التي تتعارض مع مصالح وأمن مصر، ولهذا طرح الرئيس السيسي ورقة لحل الأزمة في سورية تكاد تتطابق مع رؤية كل من روسيا وإيران، وتقوم على عدم المساس بوحدة سورية ومؤسساتها، ومحاربة الإرهاب، واللجوء إلى الحوار بين السوريين، ولم يكن هذا هو السبب الوحيد للغضب السعودي، فقد كان لشيخ الأزهر الدور الأبرز في مؤتمر «غروزني»، الذي استبعد الوهابية من المذاهب الفقهية، وهو ما أثار موجة غضب وتهديدات تجاوزت مؤسسة وشيخ الأزهر.
أما إيران فتأتي في مقدمة الدول المستهدفة بـ«النيران» السعودية، وهو ما عبر عنه صراحة أنور عشقي رئيس المخابرات السعودية السابق، الذي دعا إلى إسقاط النظام الإيراني خلال رعايته مؤتمراً لجماعة «مجاهدي خلق» المعارضة لإيران وتكفير مفتي السعودية للإيرانيين كافة، ويمتد هذا العداء بالطبع إلى سورية التي دفعت مئات آلاف الضحايا بسبب الإرهاب الذي تدعمه السعودية، والذي دمر الكثير من مدنها وبنيتها التحتية، وكلف اقتصادها خسائر يصعب حصرها، وكذلك تضع المملكة «حزب الله» في صدارة أعدائها، وتدفع الكثير لكل من يمكنها من النيل من الحزب وأعضائه وحلفائه، وضغطت على أعضاء الجامعة العربية لوضعه على قوائم التنظيمات الإرهابية.
هكذا اتسع طوق الكراهية حول المملكة الوهابية، والقابل للانفجار أو على الأقل سيغذي أجواء التربص والإيذاء التي تعيشها مملكة الرعب، والمرشحة لتكون ساحة لصراعات مركبة وعنيفة، ناتجة عن استعمال أموالها في التدمير والتخريب وإثارة الفتن.
طوق الكراهية الذي يحيط بالمملكة قابل للاشتعال في أية لحظة، وينتظر أي احتكاك أو أزمة حادة ليحول المملكة إلى كتلة من النيران.