بدأت أحداث 2011م تلقي بظِلالِ الفرز والتمايز وتعمل على تفكيك البُنى التي كانت تبدو حينها أنها أكثرُ تماسكاً وتفاعلاً مع لحظتِها الثورية التي جاءت من الفراغ لتبدع فراغاً أشد وأنكى من ذلك الذي كانت عليه اليمن قبل 2011م.
الذين تحدثوا كَثيراً عن اللهِ سبحانه وتعالى ومحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وبكوا واستبكوا ووقفوا واستوقفوا جفّت منابع دموعهم الآن بعد أن شاهدوا في الأفق شلالات الحنين تتدفق في مصب أنهارهم الجارفة، والذين شغلوا الشاشات تنظيراً ونقداً واشتغالاً ذهنياً على المصطلحات الفلسفية الكبيرة لم يكن حظ الوطن منهم إلَّا قصيدة رثاء طويلة تبكي المآلات والمصير المجهول، والذين تحدثوا عن العمالات وشبكات التجسس لم يكونوا إلَّا أوفرَ حظاً من سواهم في العمالة والخضوع، والذين لعنوا الفساد وأعلنوا التطهر والشرف فاحت روائحهم النتنة في الصحافة الوطنية كأشد الناس استغراقاً فيه. فالتباس المفهوم دال على جوهر الواقع وحقيقته وما يحدث لا يمكننا السكوت عليه أَو تبرير واقعه؛ لأَنَّه يحفر في صميم التجربة الوجودية وينخر في الجسد الوطني العام ويهدّد المستقبل بالفناء والارتهان وبالخروج من دائرة الحياة والوجود، ذلك أن أسئلة الوجود التي بدأت في القرن الماضي مع بداية عصر النهضة وتواترت ما تزال هي ذاتها تحاصر الإنسان المعاصر.
فالتأخر والشعور بالهزيمة والشعور بالاستهداف من الآخر قضايا ما تزالُ عالقةً في مسار الفكر العربي الوجودي ولم يحسم جوهرها الموضوعي حتى الآن، ذلك أن الإنسان العربي ما يزال يعيش واقعاً ضبابياً تتنازعه فيه الأمواج والتيارات ولم يصل إلى الحقيقة الكامنة في ذاته والقادرة على تفجير كُـلّ الإمْكَانات وتوظيفها بما يحقّق له الوجود والندية وتجاوز وهم الهزيمة والاستهداف والشعور بالنقص.
لقد شغلتنا الصحافة السيارة للقوى السياسية التي صادرت أحلام الشباب في 2011م بقضايا الفساد واتخذت منه مطية لكي تبدع فسادا غير مسبوق في تاريخ الشعوب فقد كشف تقرير لجنة العقوبات الدولية شبكة الفساد والغول الذي يعيث دماراً وخرابا وفسادا، وقد دلت عليه بواطن الخطاب السياسي للقوى السياسية التي تتخذ من ولائها ومساندتها لقوى العدوان الدولية على اليمن مطية لممارسة أبشع أنواع الاحتيال على مقدرات اليمن وعلى قوت أبنائه.
وقد أظهر تقرير خبراء فريق العقوبات بمجلس الأمن الخاص باليمن بواطن المشروع السياسي الذي تشتغل عليه القوى السياسية التي ذهبت إلى الساحات عام 2011م ومن ثم ذهبت إلى الرياض عام 2015م عند بدء العدوان على اليمن وقد قال التقرير: إن الفساد مكن مجموعة قليلة من كبار المسؤولين بالبنك المركزي بعدن والحكومة مع كبار رجال الاعمال وخص بالاسم مجموعات بيت هائل سعيد أنعم بالاستيلاء على وديعة تقدر بمليار دولار لدعم استقرار الاقتصاد في اليمن خوف وقوع كارثة إنسانية؛ بسَببِ العدوان حتى يبلغ غاياته دون حدوث ضغوط عليه، وفي المقابل تحدث الإعلام العالمي عن شراء بعض كبار المسؤولين في حكومة الرياض لعقارات في تركيا وماليزيا وإندونيسيا وفي باريس فضلاً عن الشركات الكبرى ومصانع الحديد والصلب.
وبذلك يكون اليمن قد عرف اليوم من يتاجر بمصيره وكرامته وبمقدراته ليبني أمجاده، ومن يريق الدم على ثراه الطاهر ليدفع عنه شرور الطغاة والمجرمين ويحافظ على كُـلّ مقدراته من السطو والمتاجرة والبيع.
لقد أسفرت الصورة اليوم عن نفسها، أسفرت عن فريقين، فريق بصنعاء يرى اليمن وطنا للقلوب ويدفع عنه شرور الغزاة والمعتدين، وفريق آخر بالرياض يرى اليمن وطناً للجيوب وقد قال تقرير لجنة العقوبات وقالت التقارير الإعلامية في الصحف العالمية بما بكفي ليميزَ الناس ويعرفَ الشعبُ من الذي يدافع عنه ومن الذي يقتات على مآسيه وأوجاعه ويشيع الفساد في الأرض.