اليمن اليوم أمام منعطف تاريخي مهم في تحقيق وجوده وقدراته وفاعليته أمام القوى التي ترى في تفكيك منظومته وجوداً حيوياً وفاعلاً لها ، ومواجهة مثل تلك التحديات دون مشروع واضح الأهداف والمعالم والأبعاد لن يجدي .., ذلك أن مهمة اليمن الآنية والمستقبلية لا بد أن تسير في خطين متآزرين هما خط التفكيك النظري والثقافي , وخط البناء وتوسيع دائرة الوعي والالتفاف الجماهيري بالطرق والوسائل الفنية الحديثة، فالفنون والآداب حياة مكرّسة قادرة على فتح عوالم المستقبل في الوجدان الجمعي , وقادرة على صناعة موقف جمعي من قوى الإقصاء والإبعاد والفناء والتدمير – أقصد قوى العدوان – ، فبقاء فاعلية اليمن رهن قدرته على اقتناص اللحظة التاريخية للتحول والتحديث والانتقال، فعبثية الماضي التي شاعت في مكوناته التنظيمية وفي الهيكل العام للدولة والمؤسسات وفي البنى الثقافية لن تكون إلا فناءً مؤجلاً إذا استمرت هي نفسها في هذا المفترق التاريخي الذي يمر به اليمن.
ولذلك نقول أن من ظن في نفسه القدرة والذكاء على دفع فطرة الله والتجديف ضد سننه فقد وقع في الخطأ، ولا سبيل لكل الماضي الذي كان في رخاء ونعيم إلا التكيف مع الجديد والتفاعل مع أدواته وعلائقه وبصورة أكثر تناغما , وأكثر إدراكا له, أما سبيل الدم ومفردات الدمار والفناء فلن يكون إلا سبيلا خاسرا , فالدلالة الرمزية إلى المسارعة إلى دار النعيم والخلود ليست بإراقة الدم , ولكن بالعمل وبالابتكارات الإبداعية التي تحمل نفعا للبشرية لا دمارا لها , ولا أظن اليمن الذي شهد كل ذلك الدم المراق على ترابه بحاجة إلى المزيد منه, ولكنه بحاجة إلى الحياة والاستقرار والأمن من الخوف وكذا الأمن من الجوع, ولن يتحقق له ذلك طالما ظل كل طرف سياسي يتربص بالآخر الدوائر, وطالما ظل الاستقرار حالة جدلية تديرها ردود الأفعال والشعور الطاغي بالخوف من الآخر , وطالما كان هناك عدو لا يريد للبلد الخير والنماء والازدهار.
من الخصائص الجوهرية للإسلام أنه اشتغل على اليقين ,وعلى السلام وهما خاصيتان لو تحولتا إلى ثقافة لأصبحنا أمة ذات شأن عظيم ,بيد أننا أهملناهما وانشغلنا بالصغائر , ولو انشغلت عليهما الأطراف السياسية اليمنية التي تناصب اليمن العداء وتجلب له الأعداء من كل أصقاع الأرض لتقوم بتدميره , لأصبح اليمن ذا شأن عظيم , متصل الحلقات بماضيه الحضاري , وقادراً على التفاعل مع المقومات الحضارية والثقافية الحديثة , يعي لحظته الجديدة, ويؤمن بالتعدد , وبحرية الآخر , وحقه في الحياة والعيش الكريم.
فاليمن يعيش وضعا لا يحسد عليه , فالأطراف السياسية التي كان يفترض بها أن تكون عونا له ومخلصة الولاء , أصبحت عبئا عليه وعلى المرحلة والاستقرار وعلى عملية الانتقال في حد ذاتها , فالصراع على الأرض ونتائجه يكاد أن ينحرف بمسار أي تسوية سياسية , ذلك لأن بعض الأطراف تحاول أن تستغرق نفسها في مشروع الاستهداف لليمن ,وقد أصبحت جزءا بل أداة من أدوات الاستهداف الذي تديره قوى العدوان على اليمن , والاستغراق في الحالات الانفعالية قد يفضي إلى المزالق الخطرة والمدمرة , والذين وقعوا تحت حالة (عمه الطغيان) لم يفكروا بالعودة إلى حالة الاستقرار النفسي وتغليب العقل والحكمة والمصلحة الوطنية العليا , فالثأر السياسي الذي تمارسه بعض الأطراف السياسية لم يخرج من دائرة الطغيان ودائرة العنف إلى دائرة العقلنة التي يجب أن تكون سمة غالبة في المراحل التي يهددها الانهيار واختلال القانون العام والطبيعي.
اليوم وفي هذا العام وصل عمه الطغيان إلى الاشتغال على فكرة الشتات والتمزق، وهي ظاهرة كان لها ما يماثلها في عقد الستينيات من القرن الماضي اشتغل عليها عبدالرحمن البيضاني عام 1963م، وهي فكرة القحطانية والعدنانية التي تعود إلى المشهد الوطني عن طريق الدراما الممولة خليجيا تحت ظلال مشروع الرياح الباردة وينساق إليها تيار الإخوان .
هناك مسلسل بعنوان « عيال قحطان « يشتغل على التفكيك في النسيج الوطني ولا بد أن نستنفر الطاقات لمواجهة الحرب الناعمة فهي الأشد خطرا على أمن واستقرار اليمن من الحرب العسكرية , وتبث بعض القنوات دراما تركية تشتغل على فكرة الطائفية وتناقش فكرة الخلافة وهي الفكرة البديلة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو مشروع يقوم على فكرة تقسيم الجغرافيا العربية على أسس عرقية وطائفية وثقافية وهو عمل ما يزال في طور التشكل لكن مؤشراته أصبحت مقروءة في الواقع وفي تفاعلاته المختلفة.
كل المؤشرات التي تبعث رموزها اليوم تقول أن الحرب العسكرية شارفت على نهايتها من خلال الحركة الدؤوبة التي يقوم بها مبعوث الرئيس الأمريكي ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة , المعركة تتجه صوب مكان آخر وهو مكان إذا لم ننتبه له في هذه المرحلة ونعد له العدة فقد ينفذ العدو من خلاله ,ويحقق من خلاله ما عجز عن تحقيقه بالعمليات العسكرية , تفعيل دور الجبهة الثقافية في مستوياتها المتعددة ووفق رؤى واستراتيجيات واضحة أصبح ضرورة ,وعلينا الاشتغال على هذا البعد بما يجعل العدو يقف عاجزا عن بلوغ غاياته .
كل مرحلة لها ظروفها ولها أدواتها والتفكير هو سبيلنا لبلوغ الغايات كما أن معالجة الاختلالات في زمنها وبما يتسق والمصالح المرسلة للبلد هو المعيار الذي يفترض بنا محاكمة الأحوال والتفاعلات من خلاله، ولعل في خطاب السيد قائد الثورة في الذكرى السنوية للشهيد برامج عمل ثقافية والتركيز على الوعي والأخلاق من الأساسيات التي تتطلبها المرحلة .