الجوابُ بكل صراحةٍ وبساطةٍ هو (أمريكا).
فلو قُدِّر للأمريكان مثلاً أن يتصالحوا مع إيران غداً صباحاً لتصالَحَ العربُ معهم واتفقوا غداً بعد الظهر!
هذه هي الحقيقةُ المغيبةُ عن أذهان الكثيرين وهذه هي المعادلة التي لا يعيها جيِّدًا إلا كُـلُّ من هو على اطلاعٍ ومعرفةٍ بالتاريخ وطبيعة وأصل الصراع.
وإلا لماذا كانت علاقةُ العرب مع إيران (سمناً على عسل) عندما كانت علاقة أمريكا مع نظام شاه إيران (ولا أروع)، مع أن إيران في تلكم الحقبة كان لديها مفاعل نووي وكانت تخصب اليورانيوم وكانت كذلك تسيطر على الجزر الإماراتية وكانت تتبع ذات المذهب التي تتبعه اليوم وكانت تتحكم بالملاحة في مياه الخليج العربي ومضيق هرمز وكان هذا الخليج نفسه يُسمى حتى في الخرائط الأمريكية نفسها بالخليج (الفارسي) وكانت السفارة الإسرائيلية هناك في طهران مشرعةً أبوابها ومفتوحة على الآخر!
ما يعني موجبات ومسببات العداء لإيران التي يتحدث عنها العرب اليوم كانت موجودةً تماماً وَ(زيادة حبتين) ومع ذلك كانت علاقتنا بهم أكثر من ممتازة، فلم نسمع أن حاكماً عربياً اشتكى أَو تضايق من خطورة امتلاك إيران للمفاعل النووي مثلاً أَو ادعى أن إيران تحتل جزرنا أَو أنه تضايق من سيطرتها على مياه الخليج العربي وإصرارها على تسميتِه بالفارسي، كما لم نسمع أَيْـضاً أن مسئولاً أَو عالم دين اتهم إيران بالمجوسية أَو الصفوية أَو حتى الفارسية!
وكلنا يعرف طبعاً كيف استقبل السعوديّون شاه إيران بالطريقة والحفاوة التي لم يستقبل بها ملكٌ أَو رئيسٌ من قبله ولا من بعده حتى ترامب نفسه عندما استقبله السعوديّون لم يُستقبل بذات الحفاوة والترحاب الذي أُستقبل بها شاه إيران وحتى العاهل السعوديّ الحالي لم يرقص العُرضة أمام ترامب بذات الحماسة والفرحة التي رقصها ذات يومٍ في ريعان شبابه أمام الشاه!
وهنا يجب أن نشكُرَ كاميرا الفيديو التي وثقت لنا تلك اللحظة التاريخية والتي لولاها لما رأينا آلافَ المواطنين السعوديّين وقد اُخرجوا إلى جنبات الشوارع والطرقات يهتفون بحياةِ شاه إيران، ولا رأينا كذلك أمراء الأسرة السعوديّة الحاكمة بمن فيهم العاهل الحالي للمملكة وهم يتراقصون فرحاً وطرباً بمقدم ذلك الشاه.
وفي لحظةٍ من اللحظات وبقدرة قادرٍ وعلى إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران وإسقاط نظام حكم الشاه تبدلت نظرتنا إلى إيران وانقلبت رأساً على عقب فإذا هم في عيوننا مجوساً وروافضاً وفرساً وصفويين لا لشيءٍ إلا لأَنَّ أمريكا رأت وأوعزت لنا بذلك مع أن السفارة التي اقتحمها الشباب الإيراني الثائر لم تكن السفارة السعوديّة ولا الإماراتية ولا أيَّاً من سفاراتنا العربية وإنما كانت السفارة الأمريكية، وأن السفارة التي تم إغلاقها وطرد سفيرها في طهران واستبدالها بسفارة دولةٍ أُخرى لم تكن السفارةُ الفلسطينية وإنما كانت السفارة الإسرائيلية والتي تم طردُ طاقمها واستبدالها في نفس البناية بسفارة دولة فلسطين!
يعني ناصبناها العِداءَ من أول يومٍ لاندلاعِ ثورتها الإسلامية بدون أدنى مبرّر حقيقي أَو واقعي ثم نتساءل بعد ذلك: ماذا تريد إيران من بلادنا؟، لماذا تتدخل في شئوننا وأمننا وشعوبنا!
بالله عليكم ماذا تريدونها أن تعملَ إذَا كنا نستجدي أمريكا كُـلَّ يوم ونحرضها على ضربها ليس حمايةً لمصالحنا وإنما تملقاً وتقرباً من أمريكا وخطباً لودها؟
ماذا تريدونها أن تعملَ حمايةً لنفسها إذَا كنا حرفنا الأنظار عن قضيتنا المركزية الأولى -قضية فلسطين- وذهبنا نعلنُ على الملأ تحالفنا مع “إسرائيل” لضرب إيران؟
ماذا تريدونها أن تعمل إذَا كنا لا نريد أن نتحرّرَ من التبعية الأمريكية العمياء، التبعية التي جعلتنا نعلنُ الجهادَ ونستنفر للدفاع عن أفغانستان ذات يوم في مواجهة الغزو السوفيتي، بينما وقفنا كالنعامِ نرقُبُ من بعيد اجتياح أمريكا لأفغانستان، التبعية التي جعلتنا نستنفر لنصرة العراق في مواجهته مع إيران بينما وقفنا كالنعاج نرقُبُ من قريب اجتياحَ أمريكا للعراق بل وشاركناهم فيه، التبعية التي جعلتنا لا نتحالفُ إلا على أنفسنا ولا نتآمر إلا على بعضِنا بعضاً، التبعية التي جعلتنا نؤمن أن تسعة وتسعين في المِئة من أوراق اللُّعبة هي في يد أمريكا فذهبنا ننخرطُ في مشروعها ونراهن عليه حتى أضعنا فلسطين كما أضعنا من قبل الأندلس وتورطنا في تدمير العراق وسوريا واليمن وليبيا والحبل -كما يقال- على الجرار، التبعية التي قتلت فينا روح الأمل والتضامن والوحدة وأفقدتنا البوصلة حتى لم نعد ندري في أي اتّجاهاتٍ وأنحاءٍ نسير.
ثم نعيبُ بعد ذلك على إيران أنها قرّرت أن تتعملقَ وتستقلَّ بمشروعها الخاص، بينما نحن قد ارتضينا لأنفسنا أن نظلَّ صِغاراً وأذناباً في كنف المشروع الانتهازي الأمريكي المشبوه!
نعيبُ عليها أنها تذكرت أمجادها وقرّرت أن تتحرّر من تبعيتها لأمريكا والغرب وأن تكون صاحبة مشروع إمبراطوري مثلها مثل أمريكا نفسها وروسيا وكوريا الشمالية وَ… وحتى إسرائيل، تعيد من خلاله تلكم الأمجاد الغابرة كواحدة من أهم القوى العظمى والفاعلة، بينما نحن وبسبب هذه التبعية العمياء لأمريكا نسينا أمجادنا وأحلامنا فلم نعد نتذكر من ماضينا التليد فقط سوى يوم أن كنا قبائل متناحرة وأقواماً يغير بعضها على بعض؟!
نعيب عليها أنها تجري كُـلَّ يومٍ تجربةً ناجحةً لصاروخٍ جديدٍ بعيد المدى أَو تفتتح مصنعاً جديدٍ للتصنيع العسكري المتطور بينما نحن نفتتح كُـلّ يوم مرقصاً أَو ملهىً ليلياً أَو ملعب قمارٍ أَو ديسكو (حلال) أَو حانة خمر!
ثم بعد ذلك نطمع أن نواجه إيران؟!
هل رأى العالم أسخف منا في هذا الكوكب؟
لقد كان حرياً بنا يا سادةُ أن نحذوَ حذوَ إيران ونؤسِّسَ لمشروعنا الإمبراطوري القومي العربي أولاً قبل أن نفكِّرَ يوماً في مواجهة ومهاجمة إيران أَو غير إيران لا أن نظل دمىً وأدوات في أيادي أصحاب المشاريع الإمبراطورية العظمى؛ أمريكا وغير أمريكا..
وهنا يكمن جوهر المشكلة.