قلنا: إن أُورُوبا قبلَ المسيحية كانت لها دولةٌ وقانونٌ وفلسفةٌ ومدَنيةٌ وعُمران، بعكسِ العرب، كانت أكبرَ وحدةٍ سياسيةٍ هي القبيلة، وتقومُ على رابطة الدمِ والنَّسَبِ، ولا دولة ولا قانون ولا مدَنية ولا عُمران، فجاء الإسلامُ وكوّن أُمَّـةً والأمةُ كوّنت دولةً وقانوناً ومدَنيةً وعُمرانَ وحضارةً؛ ولذلك يقولُ العلامة ابن خلدون: إن الاجتماعَ السياسيَّ للعربِ لا يقومُ إلَّا على أَسَاسِ الرابطة الدينية، وتطوّر العربُ (الأمةَ والدولةَ والحضارةَ) تطوراً طبيعياً كسائرِ الأمم، ساهم الإسلامُ في تشكُّلِها وتطوُّرِها وقدرتِها على استيعابِ وهضمِ مُدخَلاتِ الحضاراتِ والمدَنياتِ الأُخرى، كـ الفارسية والرومانية واليونانية بدرجة رئيسية في كُـلٍّ منسجمٍ ومتكاملٍ..
وكسائرِ الأمم، دخلت مرحلةُ الجُمُودِ والتراجُعِ، وعندما بدأت محاولاتُ النهضة في القرن التاسع بدأت بخطواتٍ مبشِّرةٍ مع جمال الدين الأفغاني ومحمد علي، لكن سرعان ما أدخلنا التيارَ العلماني والإسلامي أَو قل “الإخوان المسلمين” في معركة البيضة والدجاجة، وجرفوا القضيةَ برمتها خارجَ سياقها الحضاري والتاريخي.
فالنهضةُ ليست سلعةً يمكن استيرادُها أَو نقلُها كما يعتقدُ فرح أنطون، ولا هي عمليةُ استحياء الدين كما كان في عصر نقائه الأول، فالماضي لا يقبلُ النقلَ أَيْـضاً، إنما النهضةُ عمليةٌ تبدأُ بمساءلة الواقع واحتياجاته والانطلاق من مقوماته الذاتية ومخزونه النفسي وموروثه الحضاري في عملية اصطفائية تستوعبُ حاضرَه.
كما أنها ليست عمليةَ مخاصمة للمدَنيات الحديثة وإعلانَ الحربِ والقطيعةِ معها، كما يعتقد الإسلامويات السلفية.
النهضةُ عمليةٌ ضِدَّ الاغترابِ في الماضي وَضِدَّ الاغترابِ في الحاضر.