في حضرة فلسطين وقدسها لا يحقّ لأحدٍ التستر بالاختلاف، لأنّها غير قابلةٍ للقسمة، وبالتالي فهي غير خاضعةٍ لقانون وجهات النظر، بل أكثر من ذلك، فهي غير قابلةٍ للحياد، وبالتالي فهي غير خاضعةٍ لقانون المسافة الواحدة. وهذه القاعدة الرئيسية مستعصية على النقض، لأنّها أصل الأشياء، وأمّا ما نؤرخه أو نعاصره من أحداثٍ ومستجداتٍ استسلامية تطبيعية تتبيعية، فهي مجرد تراكمات رملية لا تصلح للتقعيد، فالمواقف تُبنى على القواعد الصلبة والنواميس الدائمة، أمّا الارتزاق فيُبنى على قواعد من غبار وأعمدةٍ من ماء. فهذه فلسطين، و"هذه"، اسم إشارةٍ للقريب رغم بُعدها بالاحتلال، لأننا لا نستطيع التمييز إن كانت تسكننا أم نسكنها، وقاعدة السكنى ليست خاصةً بمن يحملون جنسيتها، بل بكل لسانٍ على طرفه الضاد، وبكل قلبٍ في سويدائه لفظ الجلالة، وفي كل قطرة دمٍ سُفحت على امتداد هذه الخارطة، تلألأت فلسطين، وعلى كل حجرٍ تهدَّم نُقِشت فلسطين، وعلى جذع كل شجرةٍ اقتُلعت نُحِتت فلسطين، لذلك فحين تخبرني أنّ فلسطين مجرد وجهة نظر، فأقل ما يمكنك توقعه أنّ نخبرك بخيانتك وموطنها ومستوطنيها.
حين تضع من يختانون فلسطين في خانة الخيانة، يغضبون غضبةً مضرية، ويتهمونك بالترهيب عبر التخوين، ويحاولون إيقاف المثلث على رأسه، ويصبح مطلوباً منك الدفاع عن نفسك، ويشعرونك من غضبتهم أنّ قفص الاتهام ما خُلق إلا لك، وكأنّ دين الآباء والأجداد كان الخيانة، وأنت الصابئ الوحيد، ويتندرون على أمّة الممانعة باعتبار لغتها خشبية، لا تتماشى مع موضات العصر، وكأنّ فلسطين قَصة شعر، أو كأنّ استبدال الكوفية بالـ"كيباه" تمَدّنٌ. ولكن هؤلاء لا يدركون أمراً في غاية الأهمية، وهو أنّ اتهاماتهم هي ذروة الشرف للمتهَمين، وهي قياساً تشبه تهمة قوم لوط له ولعائلته بأنّهم "قومٌ يتطهرون"، فهو يتهمك بأنّك مُطهرٌ من رجس الخيانة ودنس الانبطاح، باعتبار دنسه وأرجاسه هي السائدة، وتتطهر من كل سبيلٍ يؤدي إليهما ولو بالشبهة، وهذه تهمة لا حاجة لنفيها أو السعي للتملص منها، بل تستحق القبض على الجمر في سبيل نيل استحقاقها، فليس بالأمر المتيسر أن تكون فلسطين سكناك، وليس بالأمر الهيّن أن يكون كل كيانك سكناها.
قد قرأت لأحد الكتاب العرب، وهو كالكُثر الذين "يختانون أنفسهم"، ويختانون فلسطين، يقول "بأنّ الممانعين يعتقدون أنّهم الصواب دوماً ودونهم الباطل، وبالتالي فهم يخوِّنون كل من ليس من رأيهم". وأول ما يُشين هنا اعتبار فلسطين مجرد رأي، وهذا بحد ذاته رأيٌ شائن، وهذا الشنار الذي يكلل هذه "النخبة"، حدث بفعل الطفرة النفطية وأموال كروشها، والتي ما استُخدمت يوماً إلّا لخدمة المشروع الصهيوني، تحت ستار التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، فالأموال مثلاً التي تُحسب أنّها قُدمت على سبيل المساعدات لفلسطين، لم تكن سوى بهدف إعطاب الثورة، وبهدف إفساد كل روحٍ فيها همّة المقاومة ونزق الكرامة. ومثالٌ آخر حيّ، حيث يتم حساب الأموال التي يُشترى بها السلاح لقتل الشعب اليمني، باعتبارها مساعدات لليمن واليمنيين، في قالب إنسانيٍ وضيع. ومثالٌ ثالث، فالأموال الجالبة للقتل والدمار في سوريا، تُعتبر مساعداتٍ للشعب السوري. ومثالٌ رابع، فالأموال التي كانت تُقدم في قالبٍ ديني كإنشاء المراكز الدينية وتوزيع المصاحف وكتب الفقه من منهلٍ حصريّ مجاناً، كانت لتفريخ الإرهاب واستخدامه وقت الحاجة، وإذا كانت هذه المساعدات قد انفجرت نيراناً في شوارع ومدن العالم حسبما تقتضي مصالح أمريكا و"إسرائيل"، فإنّ هؤلاء "النخبة" يتفجّرون في العقل الجمعي والوعي الجمعي، وقد تم شراء بعضهم وإعداد بعضهم واختلاق بعضهم لهذه المهمة، مهمة زرع "إسرائيل" في عقل الأمّة ووعيها.
من خاض تجربة الاعتقال لدى المحتل الصهيوني، وتعرّض لتجربة المواجهة مع المحققين، يعرف أنّ أول ما يواجهه به المحقق، هو التثبيط من خلال الإيحاء بأنّه لا فائدة، وأنّ كل ما تقوم به مضيعةٌ للوقت وإهدارٌ للعمر وتفريط بالمستقبل والدّعة، والحقيقة أنّه لا فرق على الإطلاق بين هذه النوعية من المحققين، وبين تلك "النخبة"، التي تفتعل الغضب حين اتهامها بالخيانة، والفرق الوحيد قد يكون بالاسم واللغة، وهذه فروق لا تكفي للتنصل من تصهين العقل واللسان، وعليه فـ"الممانعون" لا يختبئون خلف إصبعهم، ليحاولوا التنصل من اتهام الخونة بالخيانة، وحتى لو كانوا أكثر تهذيباً أو أكثر ديبلوماسيةً، واستنكفوا عن خوض معارك جانبية، ففي قرارة أنفسهم يقين الراسخين، بأنّ الخيانة ذات وجهٍ واحد، وهو غير قابلٍ للتجميل أو التقنّع، ودلالاته لا تخضع للاجتهاد، فهي عُرفٌ بشريٌّ منذ بدء الخليقة، وفي فلسطين دلالاته أشدّ وضوحاً وأكثر رسوخاً، منذ وطئت قدم أول صهيونيٍ أرض فلسطين بعد مؤتمر بازل. وهذا يعني أنّه بافتراض المستحيل العاشر بتأبيد "إسرائيل" بن غوريون، وأنّ القيامة قامت بوجودها، فلن تتغيّر دلالات الخيانة ومفهومها، فالرواسخ ليست تاريخاً عابراً، وأمّا الرياح فمهما صادمت الجبال تظل عابرة، لذلك فالخونة لا علاقة لهم بالغضب ولا يعرفونه، فضلاً عن أن يكون مُضرياً، لأنّ أول شرارات الغضب الكرامة، ومن سفح كرامته على أبواب النفط، ممّ سيغضب؟ حيث لا محفزات لديه، إنّما يفتعل الغضب كدورٍ يؤديه في مسلسلٍ طويل، ليجعل الدنس والنجس في عقول الآخرين وقلوبهم وعلى ألسنتهم مستساغاً.