عقب الخديعة الكبرى التي افتعلتها أمريكا، وصوَّرتها بصورة الأسد الجريح الذي يتوثب للانتقام، وقد عربدت كقطب عالمي واحد، وصنّفت العالم إلى قسمين: إما أن يكونوا معهم يقاتلون تحت رايتهم وفي صفهم وفي المكان والزمان الذي يريدونه، أو هم ضدهم، حتى ولو اتخذوا موقف الحياد، وحينها لم تجد الأنظمة العربية حفاظا على وضعياتها البائسة إلا أن تعلن انضمامها للقطيع الأمريكي، وأنهم جنود مُجَنّدة تحت رهن إشارة الأمريكي، الذي كان يعقد العزم على استهداف شعوب العالم الإسلامي استهدافا مباشرا، والقيام بالاحتلال المباشر لبعض بلدانه، وخيم الصمت والخوف والهلع على معظم أرجاء المعمورة.
لكن بينما كان القطيع العالمي يمضي في الركاب الأمريكي طوعاً وكرهاً، وقد فرض نفسه إلها يُعْبَدُ من دون الله، يأمر فيُطاع ولا يُعْصَى، دوّى صوت جهوري في الركن الغربي الجنوبي لجزيرة العرب، وقارة آسيا، ينال من الهيبة الأمريكية، ويُسقط صنميتها، ويكسر جدار الصمت المفروض والمخيم والمطبق على شعوب العالم، ذلك حينما أعلن الشهيد القائد -رضوان الله عليه، بدء التحرك في المشروع القرآني بإطلاق الصرخة في وجه المستكبرين في يوم الخميس 17 يناير 2002م، وفي يوم الجمعة التالي هُتِف بهذه الصرخة في مساجد مران ووادي نشور وجمعة ابن فاضل وآل الصيفي من مناطق صعدة، وشيئاً فشيئاً انتشرت ووجد من يهتف معهم في مناطق أخرى، كما توقع الشهيد القائد نفسه، واليوم تكاد تغطي معظم مناطق اليمن الحرة والمستقلة.
في حقيقة الأمر، لن نجد أفضل ولا أدق ولا أصدق من السيد القائد – حفظه الله، يؤرخ لنا هذه البدايات الرائعة والمدهشة والعجيبة للمشروع القرآني باعتباره شاهد عيان شارك في صناعة تلك الأحداث وما نتج عنها وما تلاها، ومن هنا تأتي القيمة التاريخية المهمة والعظيمة عند معشر المؤرخين الذين يريدون توثيق أحداث هذه المسيرة القرآنية، وفي كلمته اليوم بمناسبة ذكرى الصرخة عاش المستمعون والمشاهدون لسماحته تفاصيل رائعة ودقيقة للبدايات الحكيمة والموفقة والمسددة لهذه الصرخة التي آذنت بانطلاق عجلة هذه المسيرة الرائدة التي لا زلنا اليوم نعيش تجلياتها العظيمة وآثارها الكريمة، ولا سيما علاقتها بالقضية الفلسطينية.
لقد كانت الكلمة مليئة بالدروس والفوائد وتوثيق الأحداث، وغنية بموضوعاتها العميقة والشيقة، وجميع ما فيها يؤكد أن هذه المسيرة الرائدة وضعت اليمنيين أولاً والأمة الإسلامية ثانياً على الطريق الصحيح، وأن اليمنيين بفضل هذه المسيرة وجدوا أنفسهم في خط المواجهة الفاصلة مع قوى الكفر والاستبداد، التي تعبث بهذا العالم، ولا سيما أهل الكتاب باعتبارهم الأعداء التاريخيين لهذه الأمة، والذين ظلوا ولا زالوا يشكلون الخطر الحقيقي لهذه الأمة، ومن يهدد حاضرها ومستقبلها كما هددوا كثيراً من ماضيها.
حضرت القضية الفلسطينية في هذه الكلمة بشكل قوي وفاعل فيها، مثلما تحضر في جميع أدبيات هذه المسيرة اليوم، ولا يجب أن ننسى ما قاله السيد القائد اليوم من أن التصعيد الصهيوني ضد الفلسطينيين ومقدسات الأمة بالإضافة إلى التوجه الاستعماري الأمريكي المباشر لأجزاء من وطن هذه الأمة، كان من ضمن الظروف التي انطلق لمواجهتها هذا المشروع القرآني في اليمن، وتضمن الشعار – وهو عنوان المشروع النهضوي الشامل والمتكامل – عبارات (الموت لإسرائيل، واللعنة على اليهود) التي تتعلق تعلقاً مباشرا بها، بالإضافة إلى المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأمريكية والإسرائيلية، ونشر الوعي القرآني الذي يركز في كثير من مضامينه على الخطورة التي يشكلها اليهود على فلسطين والأمة ومقدساتها بل والبشرية جمعاء، وما يستلزم ذلك من ضرورة الإعداد والبناء للأمة في كل المجالات، وكل هذا يصب في التعبئة المعنوية وبناء النفسيات القوية ضد الصهاينة المغتصبين.
ذكر السيد القائد أنه لولا حركات المقاومة في لبنان وفي فلسطين، التي أعاقت العدو اليهودي عن التمدد في أحلامه، لكان بالفعل قد حقق تلك الأحلام الخطيرة المتمثلة في قضم كثير من الأراضي العربية والإسلامية إضافة إلى ما كان قد احتله في 48 و67م، وأضاف: بدلاً من تشجيع ودعم هذه النماذج الناجحة التي أعادت الاعتبار لشرف هذه الأمة، وأثبتت إمكانية هزيمة إسرائيل، وتحرير فلسطين من دنسها، سعت حركة النفاق في هذه الأمة، وأنظمة العمالة والخيانة، إلى تشويه هذه الحركات، والوقوف في صف الصهاينة ضدها، وضرب مثالاً بما تقوم به أنظمة السعودية والإمارات من إعانة للصهاينة وخيانة للأمة بتشويههم لهذه الحركات المقاوِمة، واعتبارها أدوات إيرانية، على الرغم من أن تحركهم يأتي في السياق الطبيعي لأي بلد تُحْتَلُّ أرضُه، وتُنْتَهَكُ كرامتُه، وتصادَر آمالُه وتطلعاتُه وحريته وعزته واستقلاله، وآخر ذلك التعاطي الإعلامي السعودي الوقح، والإماراتي الأوقح – على حد وصف السيد القائد – في سياق الحديث عن معركة سيف القدس التي نشبت مؤخرا.
لكن السيد القائد يخلص بأن ما قام به هؤلاء المنافقون هو مصداق لسنة إلهية ذكرها الله في القرآن الكريم، وهي فرز الخبيث عن الطيب، استدلالا بقول الله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
والأكثر قوة والأشد وضوحاً في هذا الخطاب هو الموقف التاريخي الذي أعلنه السيد القائد الذي تبنّى المعادلة التي أطلقها السيد حسن نصر الله حفظه الله في كلمته الأخيرة، بأن المساس بالقدس والاعتداء عليه يعني نشوء حرب إقليمية، وهذا ما أكد عليه السيد القائد في كلمة الأمس، وهي خطوة تاريخية سيُبْنَى عليها تاريخٌ مشرِّف لهذه الأمة، وإذا كان معروفا عن العدو الإسرائيلي قراراته الحمقاء فإن المعركة الإقليمية قادمة، ولكنها ستكون تاج إكليل على رأس كل عربي ومسلم، وسيحق الله فيها الحق، وتتكون الأمة الواحدة المعتصمة بحبل الله جميعا، والمنطلقة على أساس هديه في ضرورة مواجهة المعتدين من اليهود الغاصبين، ورعاتهم النصارى المتصهينين، وهذا ما يجب أن تعد الأمة نفسها وتهيئ وضعيتها للوصول إليه.
ولم يسلك السيد القائد طريق المواربة، وقد وجّه الشكر مرات عديدة للجمهورية الإسلامية في إيران، التي تقف إلى صف المستضعفين والمظلومين في فلسطين ولبنان واليمن، وذكر أن هذا موقف نبيل تُشْكَر عليه الجمهورية الإسلامية، لا أن تذم ويوجه لها الذمُّ والتعييب.
إن بدايات هذه المسيرة انطلاقاً من يوم إعلان صرختها وشعارها وإلى اليوم تبين أن قضية فلسطين والأقصى حاضرة في وجدانها وفكرها وأدبياتها ومسارات عملها وتحركها، وتثبت الأحداث كل يوم أن هذا الموقف خيار مصيري، وقرار مبدئي، والتزام ديني إيماني وأخلاقي وقيمي، أخذته المسيرة المباركة على عاتقها انطلاقا من هدي القرآن الكريم، ولن تتراجع عنه، وشعبنا اليمني الذي وصفه القرآن الكريم بأنهم القوم الذين يحبهم الله ويحبونه، (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)، ووصفهم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في مرات عديدة وحالات متنوعة بأن الإيمان ينتمي إليهم، حيث قال: (الإيمان يمان).
وإذا كان العدوان على اليمن تتزعمه السعودية والإمارات بإشراف أمريكي ومشاركة بريطانيا وبعض الأوروبيين والصهاينة، وأن له علاقة واضحة وبينة بحمل اليمنيين مسؤوليتهم تجاه مقدساتهم في الأقصى وفلسطين، فإنه لا يجب أن يفوتنا هنا تسجيل الإشادة بقوة الموقف اليمني الذي عبّر عنه السيد القائد يحفظه الله في هذا الخطاب، حين خاطب المعتدين بقوله: (أوقفوا عدوانكم، وارفعوا حصاركم، وأنهوا احتلالكم لبعض أجزاء بلدنا)، وبعد ذلك يتم الحديث عن الإعمار والتعويضات، وإلا فالبديل هو الاستمرار في التصدي للعدوان، والدفاع عن شعبنا وحريتنا وكرامتنا، ودعا الشعب إلى بذل المزيد من رفد الجبهات بالمال والرجال، باعتبار ذلك الخيار الوحيد الضامن الذي يضغط على العدو بأن يوقف عدوانه، ويرفع حصاره، وينهي احتلاله، ويبني ما خرب، ويعوض في ما أفسد.
إن هذه المسيرة المباركة التي تحمل فلسطين والأقصى في وجدانها وفي مشروعها وصرختها لم تتناقض يوما فيه، ولم تتخل عنه في جميع الظروف والمراحل؛ لأنه موقف ينبع من هويتها الإيمانية، وهو الأمر الذي لم نجده عند أولئك الإسلامويين، ولا سيما حزب الإصلاح الذين وجّه لهم السيد القائد أصابع اللوم بأنهم تراجعوا عن كل شعاراتهم وخطاباتهم وكلماتهم ومواقفهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر محاولين استرضاء أمريكا، وتزاحموا على صوالين الحلاقة لحلق لحاهم الطويلة، واختفوا، وتحركوا في اتجاه عكسي ضد مواقفهم السابقة، وبدون شك فإن قضية فلسطين كانت من ضمن القضايا التي تنصلوا عنها، ولم تعد حاضرة في تحركاتهم، ولا تثقيفهم، بل رأينا وزيرا في حكومتهم العميلة يجلس إلى جوار رئيس وزراء كيان العدو على طاولة واحدة، وهم يشكلون تحالفا عدائيا لإيران، الدولة التي وفرت كثيرا من إمكاناتها للمقاومة في فلسطين.
أما لماذا تغيَّر موقفُهم، فلأن موقفهم الأول لم يكن منطلقاً من مبادئ الإيمان، ولا من القيم والأخلاق، والانتماء الأصيل لهذه الأمة، بل من جعل القدس وفلسطين مادة للجذب والاستقطاب السياسي والارتزاق المادي؛ ولهذا كان تغيير هذا الموقف الأول والتنصل عنه أخيراً من السهولة بمكان، لا سيما على قوم عُرِفوا طوال تاريخهم بالانتهازية والبراجماتية وارتباط مشروعهم السياسي بالمزاج السياسي الأمريكي والبريطاني، وتقلُّب المواقف من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وصدق الشاعر حين قال:
ومن تزيَّا بغير ما هو فيه *** فضَحَتْه شواهدُ الامتحان.