المصالح الوطنية للولايات المتحدة هي المُحرك لسياساتها التدخلية في شؤون الدول وإن كانت تلك التدخلات تُغلف بشعارات ومبادئ زائفة كمكافحة الارهاب ،وحماية حقوق الإنسان ومثال ذلك تواجدها العسكري في أفغانستان الذي فرضته المصلحة الوطنية ،كما جاء إعلان إنسحاب القوات الأمريكية وإنهاء تواجدها في أفغانستان معبراً عن مصلحة وطنية أمريكية.
كانت واشنطن على علم مُسبق بما سيحدث من سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية وبقية المحافظات، ولكن الرئيس الأمريكي جو بايدن قال في كلمته الموجهة للشعب الأمريكي حول الوضع في أفغانستان بأن ماحدث كان أسرع مما كُنا نتوقع، الأمر الذي يُمكن قرأته بأن سيطرة طالبان تأتي في إطار إتفاق وبضوء أخضر أمريكي يُترجم أولويات واشنطن التي ترى أن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة لايُخل بمبدأ الردع، وإستمرار تأمين المصالح، وهو ما أشار إليه بايدن في كلمته حول الخيارات التي كانت مُتاحة في أفغانستان وهي إما التصعيد أو الوصول لإتفاق، كما دافع بايدن عن قراره بإنسحاب القوات الأمريكية وقال بأنها لن تُقاتل من أجل القيادة الأفغانية التي تركت البلاد أو من أجل جيشها الغير مستعد للقتال ،و حاول بايدن إظهار الولايات المتحدة بمظهر المنتصر في أفغانستان من خلال ما أسماه تحقُق أهداف التواجد العسكري الأمريكي التي إختزالها بايدن في مكافحة الارهاب و منع الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة ،وعدم إتخاذ القاعدة من أفغانستان مركزاً لإنطلاق هجماتها.
في كلمته بمناسبة الهجرة النبوية علق قائد الثورة اليمنية السيد عبدالملك الحوثي على مايجري في أفغانستان من فشل للمحتل الأمريكي وإنسحاب قواته ،مع وضع خطط بديلة لتغذية المشاكل ،مؤكداً بأن أفغانستان تُقدم درس كبير للعجز الأمريكي ،وخسارة من يعتمدون على الولايات المتحدة . لذا على حلفاء واشنطن في المنطقة وفي مقدمتهم النظام السعودي الإستفادة من هذا الدرس ،كون هزيمة واشنطن في أفغانستان هي هزيمة لها في المنطقة،كما أن تخليها عن حلفائها في القيادة والحكومة الأفغانية هو مشهد قابل للتكرار ، فبعد عقدين من التواجد العسكري الأمريكي في أفغانستان، وخسائر تُقدر بأكثر من ترليون دولار، بالإضافة لإعداد وتدريب 300 الف جندي افغاني ،كل ذلك كانت محصلته إنهيار سريع لقيادة الدولة والجيش،وسيطرة حركة طالبان على أكثر من نصف مليون كيلومتر خلال 10 أيام،وهو الأمر الذي يعكس بوضوح حقبة من السياسات الأمريكية الفاشلة لثلاث إدارات أمريكية متعاقبة ،رافقه فشل أفغاني رسمي في الحكم وإدارة البلاد.
هذا الفشل الأمريكي-الأفغاني إستثمرته حركة طالبان لتُقدم نفسها كبديل أفضل للشعب الأفغاني وللمجتمع الدولي، لاسيما في ظل إستيعابها لمتطلبات القبول بها داخلياً والإعتراف بها خارجياً ،حيث ظهرت طالبان في السنوات الأخيرة كحركة مُعتدلة تُبدي مرونة وإنفتاح أكبر تجاه القضايا الهامة التي تُتهم فيها الحركة بالتعصب مثل إحترام حقوق الإنسان و قضايا المرأة ،و يؤكد ذلك تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلنكين الذي قال” بأنه سيتم الإعتراف بالحكومة الأفغانية المستقبلية إذا إلتزمت بإحترام حقوق الانسان وعدم إحتضان الارهاب” ، فيما أعلن وزير خارجية الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن على الإتحاد الأوروبي التحاور مع طالبان لأنها ربحت الحرب في أفغانستان،كما أعلنت الصين إستعدادها لإقامة علاقات ودية مع حركة طالبان، ومن المُتوقع أن تفرض المصالح الدولية توالي الإعترافات بسلطة طالبان بحُجة “إحترام حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره” ،وهذه الحُجة التي تنطبق شكلاً ومضموناً على صنعاء تكشف حقيقة الكثير من الدول التي ترفض الإعتراف بصنعاء حفاظاً على مصالحها مع واشنطن والرياض رغم يقينها أن الدولة ومؤسسات و رجالها في صنعاء وليس في عدن.
مايحدث في إفغانستان يُمكن مقارنته بالعموم وفي بعض من جوانبه بما حدث في اليمن، لذا يجب أن يُمثل جرس إنذار لقيادة النظام السعودي التي إرتكبت أخطاء وحماقات في اليمن مشابهة لتلك التي إرتكبتها حليفتها واشنطن في أفغانستان ، حيث شن تحالف الرياض عدوانه وحصاره على اليمن بدافع ما يسميه تأمين حدودة المترامية مع اليمن،بالأضافة لخدعته المُعلنة بإعادة مايُسمى الشرعية للرئيس المُنتهيه ولايته هادي الذي يُقيم هو وأعضاء حكومته الفاشلة منذ سبع سنوات في منفى فنادق الرياض ، فيما تتحمل الرياض الكلفة الباهضة لقرارها الخاطئ بالعدوان، و رهاناتها على الآلة العسكرية الضخمة،ودعم واشنطن ،بالإضافة لحفنة من المرتزقة والخونة ممن يدعون الشرعية في اليمن ،ومقابل ذلك مثلت صنعاء وقيادتها الشرعية الحقيقية المُستمدة من عدالة قضيتها التي يلتف حولها أغلب أبناء الشعب اليمني العزيز الذين يقدمون التضحيات الجليلة صموداً في وجهة العدوان وإنتصاراً لمظلومية اليمن ونهجها الثوري الرافض للتدخل والوصاية الخارجية.
ما قدمته واشنطن للنظام الأفغاني وقيادته كان سراباً أكدهُ السقوط الدراماتيكي السريع لنظام الرئيس الأفغاني أشرف غني ، كما تخلت واشنطن عن مرتزقتها الأفغان ،بل وآثرت عليهم الكلاب التي أخذتها على متن طائرات الإجلاء ، ولايختلف ماقدمته واشنطن في أفغانستان عن ما قدمته الرياض لدعم مايُسمى الشرعية ممثلة بحكومة هادي التي لاتوجد إلا في الفضاء الإعلامي وشبكة القنوات المدعومة سعودياً، كما لن تختلف نهايات الأدوات والمرتزقة عن نظرائهم الأفغان،وإذا كانت الولايات المتحدة تبعُد عن أفغانستان الاف الكيلومترات ،فإن السعودية دولة مجاورة لليمن وتربُطها به علاقات تاريخية غير مستقرة سادها إصرار سعودي لفرض الهيمنة والتدخل والعبث بالشأن اليمني وصولاً لشن عدوان وفرض حصار ،وإستهداف مباشر لكل ماهو يمني بما في ذلك المغتربين اليمنيين والذين يتم ترحيلهم بشكل مُمنهج وهم من كان لهم الدور البارز في النهضة السعودية ،ولذا حتماً سيكون لهذه السياسات العدائية ضد اليمن إرتدادات خطيرة ومباشرة على النظام والدولة السعودية.
مفهوم السلام في اليمن على الطريق الأمريكية يعني الإستسلام وقبول صنعاء بإملاءات واشنطن ،وهو أمر مستحيل لدى صنعاء التي لن تنجر وراء الدعوات الأمريكية الزائفة للسلام،وتُعلن في ذات الوقت مد يدها للسلام الحقيقي الذي يتجلى فيما تطرحه من مبادرات سلام جادة كان أخرها المبادرة التي قدمها السيد عبدالملك الحوثي لوفد الوساطة العُماني الذي زار صنعاء في شهر يونيو الماضي، وتتلخص بإعلان الرياض التي تقود تحالف العدوان وقف العدوان والحصار،و إنهاء الإحتلال، وتحمل مسؤولية عدوانها ،وسيُقابل ذلك بوقف صنعاء الفوري لعملياتها العسكرية ،و ستكون جاهزة للسلام العادل والمشرف الذي يُحقق الأمن والإستقرار لليمن والسعودية والمنطقة.
ختاماً، إذا كان قرار الحرب على اليمن قد إتُخذ من واشنطن التي تُعد المستفيد الأكبر ، لذا على الرياض وهي الخاسر الأكبر أن تتخذ قرار إنهاء هذه الحرب وتفويت الفرصة على واشنطن التي تسعى أيضاً لأن تكون المستفيد الأكبر من إنهاء الحرب، وعلى الرياض أيضاً توفير الوقت وكف محاولاتها المكشوفة للتواري خلف ما يُسمى جهود الوساطة الأمريكية أو الأممية الغير معنية بالسلام الشامل العادل والمشرف، فالرياض اليوم معنية، بل و مُلزمة أكثر من أي وقت بتحمل مسؤولية سياستها الخاطئة، وإتخاذ قرار شجاع يُنهي عدوانها وحصارها على اليمن كونه مصلحة وطنية سعودية أولاً،مع المضي في حوار جاد مباشر وعلني مع صنعاء التي ربحت الحرب المفروضة عليها ،فمثل هذا القرار سيُوفر على الرياض مزيد من الكُلفة والإستنزاف في حرب حُسمت نتائجها ،كما لن يُضيف إستمرار الحرب سوى مزيد من الكسب العسكري والسياسي لصنعاء ومزيد من الكُلفة والفشل العسكري والسياسي للرياض،وبالمحصلة ومهما كانت الخيارات المُتاحة أمام الرياض محدودة لخروجها من مستنقع اليمن وتحقيق السلام تظل أفضل من إستمرار دورانها في حلقة مُفرغة ذو مخاطر متزايدة قد تقود في نهاية المطاف للإنحسار أو السقوط لنظام السعودي على غرار ماحدث للنظام الأفغاني.
* المصدر : رأي اليوم