يُعد قرار العدوان على اليمن تتويجاً للخبرة التاريخية للسعودية في التعامل مع اليمن، وهي خبرة تمتد لأكثر من ثمانية عقود سادها حالة سعودية من الإنكار لليمن وثقله التاريخي وإمكاناته البشرية والاقتصادية الهائلة، واتسمت بنوع من الفوقية في التعامل مع كل ما هو يمني، مع الاعتقاد بأن سياسات التدخل والإضعاف لليمن مطلب أساسي للأمن القومي السعودي، وضمان لتحقيق مصالح المملكة، وعليه فقد استخدمت الرياض ومنذ وقت مبكر شتى أساليب التدخل والوصاية وبشكلِ متزايد، وصل إلى محاولة إظهار اليمن على المستوى الدولي كشأن سعودي، واعتباره "الحديقة الخلفية للسعودية"، لذا لم يكن قرار الرياض بتشكيل تحالف عسكري دولي لشن حرب على اليمن سوى محاولة لممارسة أعلى مستويات التدخل والوصاية على اليمن بما يُحقق مشاريعها، وأطماعها السياسية والاقتصادية.
كشفت سنوات الحرب على اليمن جوانب القصور في الخبرة التاريخية لدى النظام السعودي، حيث بدا قرار الحرب على اليمن قراراً ارتجالياً تم اتخاذه في حالة من الزهو بعيداً عن التفكير الاستراتيجي، وأي حسابات للهزيمة التي كانت خارج نطاق التخيل للسعودية، لاسيما وأنها لم تكن منفردة في حربها على اليمن التي حشدت لها تحالفا دوليا عريضا تفوق عليه الصمود الأسطوري للشعب اليمني الذي واجه العدوان بمختلف أشكاله وهزمه نفسياً وعسكرياً، مُحدثاً صدمة قوية لدى النظام السعودي جعلته ينتقل في علاقاته باليمن من حالة الإنكار إلى حالة الإقرار.
تمكنت صنعاء من تغيير قناعات الرياض التي أضحت تؤمن بأن مصالحها التي زينت لها سوء قرار حربها على اليمن تقتضي اليوم وقف حربها وحصارها، وطرق أبواب صنعاء كحاجة سعودية مُلحة تقتضيها طبيعة المتغيرات الجديدة على مستوى الداخل السعودي، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، فالتحولات التي تشهدها المملكة في سياساتها الداخلية والخارجية التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، لاسيما عملية الانفتاح الثقافي والاقتصادي، والطموحات لدور إقليمي أكبر، بالإضافة لاستكمال عملية التطبيع مع كيان العدو "الإسرائيلي" تتطلب تهيئة مناخات مستقرة، يأتي في مقدمتها وقف الضربات العسكرية اليمنية للعمق الحيوي للمملكة، وعمليات التوغل العسكري اليمني داخل حدودها الجنوبية.
على المستوى الدولي يمر التحالف السعودي -الأمريكي بحالة من الفتور نتيجة فشل واشنطن في ضمان أمن المملكة وما تعرض له عمقها الحيوي من ضربات عسكرية يمنية، إلى جانب اعتبار الرياض التوجهات التي أعلن عنها الرئيس جو بايدن أثناء حملته الانتخابية للرئاسة استهدافاً للمملكة، بالإضافة إلى تداعيات العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا التي أسهمت في إبراز معطيات التحول في بنية النظام الدولي الذي يتجه نحو تعددية قطبية تشمل الصين وروسيا، وتُنهي الهيمنة الأمريكية، وتُعيد رسم خارطة العلاقات والتحالفات الدولية الأمر الذي يمنح الرياض مساحة للتحرك المستقل وفق مصالحها التي عبرت عنها من خلال قرار (أوبك +) الأخير المتضمن خفض الإنتاج اليومي بمقدار مليوني برميل، وفي الملف اليمني فقد توجهت الرياض نحو التفاوض مع صنعاء كمصلحة عبر عنها وزير خارجية المملكة فيصل بن فرحان خلال حديثه في منتدى دافوس الذي عُقد مؤخراً في سويسرا، حيث قال "إنه يتم تحقيق تقدم صوب إنهاء حرب اليمن، وأنّ بلاده تحتاج إلى إيجاد سبيل لإعادة الهدنة في اليمن، والعمل على تحويلها إلى وقف دائم لإطلاق النار".
المفاوضات كخيار أمثل للسلام
وضع التهدئة القائم منذ أكثر من ثمانية أشهر رغم رفض صنعاء تمديد الهدنة يعود لأسباب أهمها أن صنعاء في وضع دفاع وليس اعتداء أو تصعيد، كما أن ممارسة صنعاء لأعلى مستويات ضبط النفس تجاه الخروقات العسكرية والتصعيد الإعلامي ضدها تؤكد استقلالية القرار والتوجه الجاد لدى صنعاء نحو السلام الشامل الذي بدأت أولى خطواته بترحيب صنعاء بخوض مفاوضات مباشرة مع الرياض في ظل وساطة عُمانية تقود حراكا دبلوماسيا، ومساعي حميدة لخلق مزيد من التقارب بين صنعاء والرياض عبر تكثيف اللقاءات والمفاوضات بين كبار المسؤولين في كلا البلدين، وشملت زيارات متبادلة بين مسقط وصنعاء والرياض، بالإضافة للاتصالات واللقاءات مع عدد من الأطراف الدولية.
يرتكز الموقف التفاوضي لصنعاء على إنهاء العدوان والاحتلال، وفك الارتباط بين الملف الإنساني وبقية الملفات من خلال إنهاء الحصار، وتبادل الأسرى وصرف المرتبات، ومعالجة آثار الحرب، فيما يرتكز الموقف التفاوضي للرياض على تأمين حدود المملكة على المدى الطويل، ووقف الاستهداف العسكري لعمقها الحيوي، لذا من المُنتظر أن تُكلل جهود الوساطة العُمانية، ونتائج المفاوضات التي قطعت شوطاً كبيراً تخللهُ العديد من التفاهمات والتعهدات غير رسمية بتوقيع اتفاق رسمي مُعلن بين صنعاء الرياض يتضمن الآليات التنفيذية، والضمانات الدولية، الأمر الذي يُترجم عملياً الجدية والنوايا الحسنة للطرفين.
هناك امتعاض أمريكي -بريطاني من توجه الرياض نحو مفاوضات مباشرة مع صنعاء كون ذلك لا ينسجم مع رؤية واشنطن للسلام الذي تدعيه وهي الرؤية التي تتبناها الأمم المتحدة التي عبر مبعوثها إلى اليمن هانز غروندبرغ عن ذلك الامتعاض في إحاطته الأخيرة لمجلس الأمن الدولي التي قدمها من صنعاء في 16 يناير الجاري، حيث قال "إن مسائل السيادة لا يُمكن أن تُحل إلا بحوار يمني -يمني"، كما تُحاول واشنطن ولندن مجدداً لملمة حالة التشظي لدى الأطراف اليمنية المتحالفة مع العدوان من خلال اللقاءات المكثفة مع قيادات تلك الأطراف التي فشلت من خلال ما يُسمى "مجلس القيادة الرئاسي".
دعوات واشنطن ولندن لحوار يمني -يمني لا تعدو عن كونها مزايدات مكشوفة تُدين واشنطن ولندن اللتين منعتا استكمال الحوار الذي كان قائماً بين الأطراف اليمنية قبل 8 سنوات، وهو حوار قال عنه المبعوث الأممي السابق إلى اليمن جمال بن عمر في آخر إحاطة قدمها لمجلس الأمن بتاريخ 27 أبريل 2015: "كان اليمنيين قاب قوسين أو أدنى من التوصل لحل سياسي لكن الحوار لم يُستكمل بسبب بدء العمليات العسكرية لما تُسمى عاصفة الحزم"، لذا فأي حوار اليوم بين الأطراف اليمنية دون أن يسبقه إنهاء العدوان والحصار هو ضَرْبٌ من الخيال، وقفز على الواقع ومعطياته.
صنعاء والرياض طرفان رئيسيان يمتلكان دون غيرهما القدرة على تنفيذ أي اتفاق يخص اليمن والسعودية، فالرياض هي من تقود تحالف دول العدوان على اليمن بتواطؤ بعض الأطراف اليمنية، وصنعاء هي من صمدت وهزمت ذلك العدوان، لذا فتوجه الرياض نحو التفاوض والاتفاق مع صنعاء مصلحة سعودية تضمن تأمين حدودها وعمقها الحيوي، وبالمثل تؤمن صنعاء بأن الاتفاق مع الرياض هو المدخل لإنهاء العدوان والحصار، والتهيئة لعملية الحوار الداخلي التي تتطلب إنهاء الدعم الخارجي السياسي والعسكري والمالي المقدم لبعض الأطراف اليمنية، وإنهاء تبعيتها لدول العدوان لتكون جاهزة للحوار.
ختاماً، على الرياض إدراك أن معالجة هواجسها الأمنية تأمين حدودها الجنوبية، تحقيق طموحاتها الاقتصادية، بما فيها التطلع للحصول على مُتنفس عبر بحر العرب والمحيط الهندي لتصديـر منتجاتهـا النفطيـة لا يُمكن أن تتم إلا من خلال مدخل شامل يُصوب خبرتها التاريخية، ويتجاوز الهاجس الأمني كمُحرك رئيسي لسياستها تجاه اليمن، مع رؤية براغماتية لمستقبل علاقاتها معه تشمل التوجه نحو تأسيس شراكة اقتصادية واستثمارية واسعة تخلُق مصالح مشتركة تُلبي احتياجات وطموحات البلدين في التنمية والازدهار، كما تضبط إيقاع سياسات الطرفين تجاه بعضهم البعض بما يضمن الأمن والاستقرار لكليهما، يُعيد بناء الثقة المتبادلة، وصولاً إلى إنهاء "الفيتو" الذي يمنع ضم اليمن إلى محيطه الخليجي وعضويته الكاملة في مجلس التعاون لدول الخليج كمصلحة خليجية -يمنية، ووضع طبيعي حان إقراره.
* نقلا عن : لا ميديا