أطروحة فيبر عن الإسلام في الميزان
لقد تعرضت فرضيات فيبر( في الحلقة الثانية)حول الإسلام والأديان الشرقية عموما لانتقادات واعتراضات ليس من قبل علماء ومفكري الإسلام و الشرق فحسب انما العديد من علماء الغرب فعالم الاجتماع الأمريكي بارسونز يقول “ان الكثير من الأصول التجريبية والاستنتاجات التي توصل اليها فيبر حول الأديان غير المسيحية لم تعد مقبولة(عصر صدر الإسلام ص101) بايرن تيرنر ابرز علماء علم الاجتماع الديني من جهته يعتقد ان فرضية فيبر المتعلقة بتبعات السيادة الابوية هي التي يمكن توظيفها لتفسير بعض التطورات الإسلامية اما بقية الفرضيات الفيبرية فهي ان لم تكن خاطئة فهي قليلة الأهمية ,بل ان فيبر نفسه لم يتمكن من اختبار أهمية اخلاق العمل بمفردها في دراسته عن الإسلام وتحول لدراسة طبيعة المجتمع الإسلامي وقواه الاجتماعية ومؤسساته الابوية بينما عالج دور القيم كعامل ثانوي.
هذا التشتت النظري الذي اتسمت به كتابات فيبر جعل كتاباته عرضة لتعدد التأويلات والقراءات الأديان ,اشار تيرنر الى ان هناك اربع تأويلات كلها تدعمها سوسيولوجيا فيبر , الاولى ان القيم البروتستانتية قد انتجت الرأسمالية هكذا , والثانية انها مجرد شرط ضمن شروط أخرى يجب توافرها للرأسمالية ,والثالث انها لا تحاول اثبات علاقة سببية بين البروتستانتية والرأسمالية بقدر ما تحاول التفتيش عن التالفات الانتقائية , اما التأويل الرابع انها ليست نقيضا للماركسية فتفسيرات الافراد وتأويلاتهم للأفعال الاجتماعية تؤثر في الواقع الاجتماعي لكن معني تلك التعابير مرهون بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية (الإسلام واطروحة فيبر صـ 4)
وعلى اعتبار ان قيم العمل كافية لتفسير نشأة الرأسمالية كما هو الافتراض الاول كان بإمكان فيبر ان يعثر في النصوص الدينية المقدسة المؤسسة للإسلام وفي تراث رؤساء الفرق الدينية الإسلامية على كل القيم والاخلاقيات التي يعتبرها فيبر مسؤولة عن بعث روح الرأسمالية، الإسلام ينمى روح المسؤولية ,ويعتبر العمل عبادة ,وكره للمسلم ان يبقى عالة على غيره او متكلا على الانفاق الخيري الا في حال ” لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ” وفي سورة الملك ” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”
وبارك النبي التجارة وشجع على النشاط الاقتصادي والتمكين الاقتصادي لأصحابه كما في قصة السائل الذي جاء النبي فأعطاه درهمين وامر ان يشتري بأحدهما طعامًا لأهله، و بالآخر فأسًا ويذهب ويحتطب ولا يعود للسؤال مرة أخرى , وجعل القران من عمارة الأرض واصلاحها غاية دينية للإنسان وعندما هاجر النبي الى المدينة بني مسجدا وانشا سوقا ووضع قواعد لتنظيم التجارة المشروعة واقر حرية التبادل والاسعار فالمسعر الله كما في الحديث المنسوب للنبي منسوبة للنبي وعشرات الشواهد غيرها لا تقل عن نظيرتها في التراث البروتستانتي لكن كما يظهر فمعلوماته عن الفرق الدينية الإسلامية وتنوع تراثها كانت محدودة , وتعامل مع الإسلام كفرقة واحدة ,وجاءت قراءته للمورث الديني للفرق الإسلامية انتقائية وغير منهجية كمن يفتش في التاريخ والتراث عما يسند نظريته ويمارس الاستبعاد لكل العناصر التي لا تدعم رايه فتراث بهذا الغنى والتنوع يمكن ان يجد فيه الدارس- من خلال القراءة الاصطفائية-شواهد على الشيء ونقيضه ,فالليبرالي يمكن ان يعثر فيه على القيم التي تدعم روح الرأسمالية ,والاشتراكي على القيم التي تدعم روح الاشتراكية ,لكن المفارقة ان فيبر درس كل اديان الشرق وصادف انه لم يعثر فيها حتى على نفس رأسمالي فيها كلها ,انها مجازفة غير علميه لا تفسير لها الا الرغبة في إعادة تركيب التاريخ والوقائع لتطابق بناءه النظري وقد أشار الدكتور الجابري في مقدمة كتابه العقل السياسي العربي الى ملاحظة مهمة لها علاقة بهذا الخلل المنهجي يقول “ان المنهج العلمي في القرن التاسع عشر كان ينطلق من دراسة الظاهرة في حاضرها الى كتابة تاريخها ..وهذا المنهج فيه جانبان جانب الحاضر وهذا ينتمي للعلم وجانب تاريخ الظاهرة وقوانين تطورها وهذا ينتمى للإيديولوجيا ..التاريخ يدرس من خلال ما تبقى منه في الحاضر وبالكيفية التي تجعل نتائج الدراسة تعزز التفسير للحاضر (العقل السياسي ص21)
ما سبق لا يعنى ان العيب الأساسي للنظرية الفيبرية -كما تصورت الاحيائية الإسلامية – قصور معرفته بالإسلام بل في نظرته الميكانيكية للعلاقة بين البروتستانتية والرأسمالية وتفسيره للترابط بين مواطن انتشار البروتستانتية والثورة الصناعية باعتبارها شاهدا على ان الأولى سببا في الثانية بينما يمكن القول ان تزامن انتشار البروتستانتية والرأسمالية المبكرة في هذه المواطن لأنها البلدان التي بدا فيها اهتزاز النظام الاقطاعي والذي ينظر له معظم المؤرخين انه كان من بين العوامل التي ساهم في ظهور الرأسمالية إضافة للكشوفات الجغرافية وتراكم راس المال الوافد من المستعمرات الجديدة .
ان مقاومة الكنيسة الكاثوليكية للمدنيات الحديثة ليس بسبب قيمها الزهدية بل بسبب طبيعتها التنظيمية السلطوية، الكاثوليكية لست مجرد فرقة دينية لاهوتية كما هو حال الفرق الدينية الإسلامية , انها مؤسسة بيروقراطية ذات طبيعة الزامية وجزء من علاقات توزيع السلطة في النظام الاقطاعي بين الاباطرة والأساقفة والنبلاء . فالبابا هو الرئيس الأعلى لكل المسيحيين في الأرض والكنيسة الرومانية هي الجهاز التنفيذي او الحكومة للمؤسسة البابوية لها سيادتها في تنظيم الشؤون الكنسية في كل الشعوب المسيحية وتشرف على كثير من الأنشطة العامة سيما الأنشطة الفكرية والعلمية والثقافية ,و لها حق جباية الضرائب والاعشار والهبات والنذور كما يفعل الملوك والامراء والنبلاء . لذلك مثل اهتزاز النظام الاقطاعي وتوسع نشاط البرجوازية الحامل الاجتماعي للرأسمالية تهديدا لمصالح تحالف السلطات الاقطاعية، وفي سبيل تحطيم الاقطاع كان على البرجوازية ان تحطم أسسها الاجتماعية والاقتصادية القائمة على الاقطاع والملكية الاستبدادية والشرعية الكنسية المستمدة من نظرية التفويض وبمعنى اخر الرأسمالية كانت انقلاب على علاقات توزيع السلطة والثروة في النظام الاقطاعي “لذلك و في كل مرة شعرت فيها الكنيسة انها مهددة كانت تقاوم ذلك بأسلوب منظمة بيروقراطية تواجه خطرا”(الدولتان ص21)
من الاخطاء التي وقعت فيها الاحيائية الاسلامية هو الاعتماد على مقولات فيبريه معيوبة -كما يقول براين تيرنر- لتفسير تأخر المسلمين عن الغرب وذلك بإرجاع تخلف الحضارة الإسلامية لأسباب مثالية متعلقة بأخلاقيات العمل والدوافع الزهدية التي أبعدت المسلمين عن روح الإسلام النقي المتلائم مع الحداثة بدلا من التفسيرات الهيكلية والشروط السياسية والاجتماعية للتحديث , ومن ثم عملت على إعادة قراءة الإسلام قراءة بروتستانتية والتأكيد على وجود القيم التي نفاها فيبر في الإسلام وغيرها من الأفكار التي لم يؤدي إعادة احيائها الى تمهيد الطريق لنمو الرأسمالية والمدنية الحديثة رغم مضي اكثر من قرن من الزمان على جهود جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وغيره من مؤسسي الإصلاح الاسلامي، ان خطاب الاحيائية الاسلامية لا يختلف عن الخطاب العلماني او المدني العربي في تركيز اهتمامه على البنية الفوقية للتحديث والنظر لمسار التحديث الغربي كإطار مرجعي, الاحيائيون بالتركيز على حركة الإصلاح الديني ,والحداثيون بالتركيز على دور حركة التنوير وكلاهما انصرف عن علاقات الاستغلال والبنى التحتية والعلاقات الهيكلية والمؤسسية للتحديث .
لا اقصد التقليل من جهود حركة الإصلاح الإسلامية او من أهمية الإصلاح الديني فهو امر حيوي ومهم وعامل مساعد في التعبئة العامة لمناصرة التحديث لكن للتحديث اصوله الاجتماعية والمؤسسية السياسية والاقتصادية بل ان الإصلاح الديني نفسه يأتي نتيجة للتحديث ,جاك لوغاف في دراسته لتطور العقلية الاوربية أواخر القرون الوسطى الى الثورة الصناعية أشار الى ان الروح الرأسمالية التي تشكلت مع ظهور البرجوازية هي التي صنعت على المدى الطويل عقليات جديدة, وان تطور العقلية الدينية ارتبطت بتطورات البنية الاجتماعية الناشئة في مرحلة عصر النهضة وان قيام النظام الاقتصادي نهاية العصور الوسطى على المعاملات الربوية دفع باللاهوت على تبني عقيدة المطهر لرفع الحرج عن المرابين المسيحيين فالمطهر تزامن مع ظهور الطبقة الوسطى بين الأسياد والأقنان خلال مرحلة تفكك النظام الاقطاعي وهي الصيغة البرجوازية . وبعد القرنين الثالث عشر والرابع عشر بدا الخطاب الديني يتأقلم مع انتقال السلطة من الدير إلى المدينة ومن القصر إلى الدولة المركزية الناشئة، كما وجد الحكام الطامحون في الاستقلال عن الكنيسة في البروتستانتية ايدولوجية لتحقيق أهدافهم كما هو الحال مع هنري السابع كان كاثوليكيا متعصبا لكن طموحاته الاستقلالية قادته للانقلاب على الكنيسة البابوية وجد في البروتستانتية إيديولوجية لمواجهة الكنيسة الكاثوليكية ,وفي الحلقة القادمة -بإذنه تعالى -نستكمل النقاش حول بقية الفرضيات المتعلقة بالقانون العلاني والشروط السياسية والاجتماعية للتحديث .