لو أردنا إحصاء جرائم بني سعود التاريخية والسياسية والجنائية، لما استطاعت السطور استيعاباً. وفي المقابل لو أنّ المشروع المقاوم لم يلتزم سياسة الصبر الاستراتيجي والنفس الطويل، في التصدي للجرائم السعودية، لما كانت "إسرائيل" اليوم تعيش هواجس البقاء والوجود، ومع كل انهزامٍ سعودي، سيزداد المشروع بريقاً وتزداد "إسرائيل" خفوتاً.
حين تنظر لتاريخ بني سعود، ترى أنّ قتل خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، الجريمة التي هزّت وجدان العالم وضميره، هي أهون جرائم تلك العائلة وأقلها إرهاباً. والأشدّ بشاعةً من تلك الجريمة هو طريقة إنكارها، حيث اعتبر المفكرون والمحللون السعوديون، حين إنكار السلطة السعودية لفعلتها، أنّ هذه الجريمة هي فعل عصابةٍ لا دولة، وهي متطابقة مع السلوك الفطري. ولكن بعد اعتراف السلطات السعودية بالجريمة، ذهب أولئك المفكرون والمحللون ذاتهم لستار العمل الفردي، وهذا سلوكٌ سعوديٌّ مشهور: ترتكب الجريمة ثم تنكر، وحين تحاصرها الأدلة، تذهب باتجاه خلق الذرائع والتبريرات، وقد تكرر ذلك كثيراً بشكلٍ فجّ طوال سنوات العدوان على اليمن.
وهذا يعطي انطباعاً يقينياً حول ركائز السياسة السعودية، وهي الجريمة والإنكار والرشوة. وحين نطل على المشهد اللبناني نجد النسق ذاته، حيث ترتكب المشاركة في جرم الحصار، وجرم اختلاق الأزمات، وجرم افتعال الفتن، وجرم التحريض على الاقتتال الأهلي، وتنكر أنّها تمارس الجريمة، بل وتقدم نفسها حريصة على لبنان، ثم تقدم الرِّشى لأدواتٍ محلية، حتى يُسَبّحوا بحمدها وينظفوا سوء فعلها وسواد وجهها.
العودة إلى التاريخ قليلاً شديدة الفائدة للإضاءة على محركات السياسة السعودية، لأنّه حين يختلط الأمر على البعض في متاهة الأحداث، فالطريقة المثلى لمعرفة الطريق القويم هي العودة لنقطة البداية.
في العهد الناصري، كان العداء السعودي للزعيم جمال عبد الناصر شديد التطابق مع العداء السعودي لإيران وحزب الله وكل قوى المقاومة، ولا قاسم مشتركاً بين العهد الناصري وإيران وحزب الله وقوى المقاومة، سوى العداء لـ"إسرائيل"، حيث الاختلافات هائلة فيما بينهم لناحية المنطلقات والأيديولوجيات والحوكمة، والعداء لـ"إسرائيل" هو القاسم المشترك الأكثر وضوحاً ورسوخاً. من هنا نستطيع الاستنتاج أنّ العداء السعودي لتلك القوى ماضياً وحاضراً، في القلب منه "إسرائيل" لا سواها، باستثناء الأوامر الأمريكية طبعاً.
ارتدى بنو سعود في حربهم للعهد الناصري رداء الدين، باعتبار عبد الناصر كافراً، وقد جاء للأمة بصنم العروبة، ويريد للناس عبادته من دون الله... وحين جاءت إيران براية العداء لـ"إسرائيل"، تفطّن بنو سعود لصنم العروبة، فسجدوا له وذبحوا القرابين في محرابه، وأصبحت العروبة عجلهم المقدس، وصار كل من لا يتمسح بأعتاب القصور الملكية، مشركاً بعروبته كافراً بعجلِها، وكل من أعطته إيران رصاصة ليطلقها على "إسرائيل"، كافراً بالتبعية.
إنّ الإرهاب السعودي هو إحدى الأيدي الأشد بطشاً لإمبراطورية الشر الأمريكية. ومحاربة كل من يحارب "إسرائيل" هي الجزء الأكثر خصوصية في العلاقات السعودية الأمريكية، حيث إنّ ابن سلمان لم يخترع هذا العداء، بل هو وارثٌ له لا أكثر، الفرق أنّه يمتاز بالرعونة، والولايات المتحدة تعيش عصر الأفول. هذان سببان لإظهار السياسة السعودية في العشرية الأخيرة على حقيقتها، هوجاء عدائية رعناء.
وهذا ما ذهبت إليه صحيفة "واشنطن بوست" في جزئية ملاحقة المعارضين السعوديين وقتلهم، حيث قالت: "تبذل السعودية أقصى ما تستطيع لإسكات المعارضين في الخارج، وهذه سياسة تمتد لعقود، لكن ولي العهد اتبع هذه السياسة بطريقةٍ أكثر علانيةً وتهوراً من أسلافه". وبعيداً عن الجريمة التاريخية لوجود النظام السعودي، وبعيداً عن جرائمه السياسية المتلاحقة والمتصلة، فإنّ عالم الجنايات من جرائم القتل والمخدرات وغسل الأموال، زاخر بالكنية السعودية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قام الأمير السعودي نايف بن فواز بتهريب 2000 كيلوجرام من الكوكايين في مئة حقيبة بطائرته الخاصة من كولومبيا إلى باريس، وتم تخزينها في أحد المخازن، قبل أن تقوم الشرطة الفرنسية بمداهمة المخزن، ثم هدد الأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية السعودي حينها، بوقف عدد من العقود الاستثمارية مع فرنسا إن لم توقف التحقيق في تلك القضية. وليس آخرها توقيف السلطات اللبنانية للأمير السعودي عبد المحسن بن وليد في مطار بيروت متلبساً بتهريب مليوني قرص من الكبتاغون.
إنّ الحديث عن بني سعود حديث قميء، ويحتاج للكثير من القفازات العقلية لاستساغته والتعامل معه. ومنذ انتهاء المدّ الناصري، ترزح الأمة تحت أثقال اللوثة الوهابية، التي لا تُطاق عقلياً ولا تُستساغ فطرياً، لكنها مستوعبةٌ غرائزياً، حيث التطرف والإرهاب والإقصاء، وحيث التشوش الفكري والتشوه الفقهي، وحيث موالاة الأعداء ومعاداة الأصدقاء.
وحين قررت تلك العائلة الحاكمة التخلي عن بعض التشدد، لم تجد وسيلة سوى وقاحة التهتك، من خلال انفتاحٍ لا يشبه سوى تحويل مسجدٍ إلى حانة، كما فعل الصهاينة في مساجد فلسطين. وهذا التحول ليس عبثياً، أو من بنات أفكار بني سعود، بل هو اتساقٌ مطلق مع ما بات يُعرف بـ"الإبراهيمية"، حيث تتطلب إفراغ الأمة من عمقها الروحي أولاً، وتعميق غربتها في التيه طويل الأمد ثانياً، وهي الوسيلة التي يظنها الفاعلون الأصليون قادرة على إلهاء الأمة عن قضاياها الملحّة، لما يمتلكه النفط من قدرة تسويقية عبر السيطرة على الإعلام.
لو أردنا إحصاء جرائم بني سعود التاريخية والسياسية والجنائية، حتى لو خلال 48 ساعة فقط، لما استطاعت السطور استيعاباً، وفي المقابل لو أنّ المشروع المقاوم لم يلتزم سياسة الصبر الاستراتيجي والنفس الطويل، في التصدي للجرائم السعودية، لما كانت "إسرائيل" اليوم تعيش هواجس البقاء والوجود، وهو كذلك لأنّه مشروع انسجام الفطرة وانصهار الفكرة، ومع كل انهزامٍ سعودي، سيزداد المشروع بريقاً وتزداد "إسرائيل" خفوتاً.
* نقلا عن : لا ميديا