لا يحتاج الإنسان إلى فائض قوة أو عناء كي يكتشف أن المستبدين هم أعداء العقل الحي الذي يسمع ويناقش ويحاور ويقبل الاختلاف والتعدد في الرأي أو الدين أو المذهب ويرفض النفاق أو السكوت على الظلم والطاعة العمياء للطغاة أو أن يكون إمعة فذلك مصدر هلاك الأفراد والجماعات والدول ، ولهذا تعددت الأفكار والآراء والأديان ، والتاريخ يذكرنا دائما بأنه كلما ظهر فكر أو دين جديد استقبله ذوو الأفكار الجامدة والمتخشبة بالرفض والتكفير والاتهام بالمروق عن دين الآباء والأجداد واعتبروه وافدا خطيرا يهدد وجودهم ناسين أو متناسين أن (دوام الحال من المحال).
التحول والتطور والحركة علامة وجود الحياة ، والمستبد يسعى باستمرار إلى إيقاف عجلة التأريخ وبعضهم يجد من ينظِّر لاستبداده بالإدعاء أنه (مستبد عادل) ، وهذه أكذوبة هدفها تدجين الناس وإخضاعهم للحاكم دون تفريق بين مفهوم الطاعة الواجبة قانونا التي تحترم العدالة وتتجنب الاختلاف الذي يؤدي إلى النزاع المسلح على السلطة مع التمسك بالحق في التعبير عن الرأي والشرعية المستمدة من الشعب وليس من أي مكان آخر وحماية الحقوق المشروعة غير القابلة للمساومة ، وهذا لا ينفي وجود من يستبد برأيه مع الحرص على تحقيق العدالة وفق رؤيته لكن هذا سلوك شخصي لا يبنى عليه التنظير للمستبدين فالحكم ليس قصيدة شعر معناها في بطن الحاكم كما هو حال الشاعر، ولكنه مسؤولية يتحملها من يصل إلى السلطة بأي صورة ، والمعارضة الحقيقية ضرورة من ضرورات استقامة الحاكم والتزامه بمبدأ سيادة القانون لا أن يكون الحاكم بأمره ولكل حالة نتائجها وآثارها.
إن سعي المستبدين لإيقاف عجلة التاريخ سعيٌ خائب من يمارسه يشبه من يحرث في البحر ونتيجته مزيد من العمى عن رؤية الحقيقة الكبرى وهي أن الإنسان الذي يملك ذرة من عقل أو من ضمير هو الذي يدرك أنه قطرة في بحر الحياة المتلاطم وليس كل البحر، وعليه التحديق في نفسه والتركيز على إصلاحها أولاً ولو أن كل إنسان سلك هذا المسلك لكنا أقرب إلى الإصلاح وإدراك مبادئه ولقطعنا نحو التسامي أشواط.
الإنسان الحي جزء من الحاضر ومع كون الحاضر ابن الماضي لكن تجاوزه ضرورة ليكون حلقة فاعلة من حلقات التزامن المستمرة حسب التتابع من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل وعلى الإنسان إدراك كيف يتعامل معها من خلال المشاركة الفاعلة والواعية في الحاضر وفي بحر الحياة بتواضع مالم فإن هذا البحر لن يبالي بلفظنا كما تلفظ البحار كل الكائنات الميتة ، ومقولة (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) ليست أكثر من دعوة ضمنية للموت أو لعبادة الأصنام، وما أكثر وأقبح أصنام اليوم لو كنا نفقه أو نعقل وهناك من يتحفظ على ما تذهب إليه المقولة في تحديد بداية الأمة وينفي أن تكون قد صلحت في أي عصر.
أي أمة إنما تصلح بالعلم والمعرفة والدراسة والوعي والبحث المستمر عن الحق والحقيقة وعن المجهول لا بتقديس ما نرى أنه العلم أو البقاء في أسر الماضي وخلافاته التي تولد الصراع، فكل زمن صنع من عاشه بحضور تام ومحبة لكل الناس ، وإن بدا هذا القول غير واقعي فالسعي لتحقيق الأحلام هو جوهر الفرق بين الحي والميت من البشر وهو مادة صناعة المستقبل الأجمل والأروع غير المستسلم لسلبيات الواقع الذي يجعل الحاضر في أسر الماضي ليجتر خلافاته ويضيع في متاهاتها دون الوصول إلى نتيجة ، وبعض المستبدين حسني النية إن وجدوا هم ضحايا بقدرما هم جلادون يعملون على محاولة سلب ذوي العقول عقولهم وجلدهم صباح مساء باستحضار وإحياء خلافات الماضي الميت بدلا من الاستفادة من العقول الحية النيرة في صنع الحاضر والتأسيس لبناء مستقبل مشرق وهذا هو بيت الداء الذي تعاني منه الأمة ويستفيد منه الأعداء وما أحوج من بيدهم القرار لأن يتعظوا بدلا من أن يعظوا.
إن المستبدين يعتقدون أن هذا المسلك يحصنهم ضد الهزات غير مدركين أنهم لا يجنون منه سوى الخسران المبين، وأنه الطريق الأقرب لهلاكهم بعد هلاك الأخضر واليابس بالصراعات المستجرَّة من قلب التاريخ الكسيح، إنها حقائق غائبة عن عقول المستبدين المنشغلين بذواتهم المتورمة وتخيلاتهم المريضة عن سلبيات الماضي بدلاً عن بذل الجهد الضروري للإسهام في صنع الحاضر ضمن بقية خلق الله.
إن تراكم مخلفات وموروثات النظام الاستبدادي التي يتمسك بها البعض باعتبارها في نظرهم من مظاهر صاحب الفخامة وشرط من شروط بناء الدولة تشكل معضلة ومصدر إيذاء للجميع.
(ما مضى فات والمؤملُ غيبٌ * ولك الساعة التي أنت فيها)
معارضة:
وادعاء الكمال أدعى إلى النقـــص وأناء عن وجهة تبتغيها