قد يستغرب البعض من المتابعين والمهتمين بالشأن اليمني ربما من هذا العنوان لمقالنا أعلاه، لكن هذا هو حال الواقع كما تسرده لنا سردية التاريخ اليماني الوحدوي قبل مائة عام تقريباً حينما طلب السلطان العظيم/ عوض بن صالح بن عبدالله “سلطان العوالق العليا” – وهي السلطنة الواسعة الشاسعة الممتدة مع سلطنة أخيه وابن عمه سلطان العوالق السفلى من البحر العربي وحتى صحراء الربع الخالي، وتشمل أجزاءً واسعة من محافظة شبوه الحالية وأجزاءً واسعة من محافظة أبين الحالية، وهذا يعني أن ما نسميه اليوم بقلب جنوب اليمن النابض (شبوه وأبين) – قد طلب سلطانهم وراعيهم قبل 100 عام من يومنا هذا بطلبِ مكتوبٍ وموثق للانضمام إلى شقيقهم الأكبر الإمام/ يحيى آل حميد الدين ملك وإمام اليمن.
وقد بعث الشيخ/ أمذيب بن صالح بن فريد العولقي رسالة سياسية وعبر صديقه الشيخ/ عبدالولي الذهب (صاحب قيفه) في عام 1331هـ الموافق 1910م برسالة موجهة للإمام في صنعاء، مضمونها الانضمام للدولة المركزية في العاصمة صنعاء، تفادياً وهروباً من تمدد حكومة صاحبة الجلالة البريطانية المستعمرة الكافرة المحتلة لمدينة عدن يوم ذاك، كما كانوا يرددوا أهلنا في الريف اليمني عن الأوروبيين بأنهم كفرة فجرة.
وأن العودة إلى نظام الشقيقة الكبرى صنعاء والوحدة اليمنية معها هو الحل الناجع عن ذلك النظام الأجنبي الأوروبي الاستعماري الذي سينقل آفات وأمراض النظام السياسي البريطاني الأجنبي بتبعاته الاجتماعية والثقافية والإنسانية والأخلاقية.
وكرر تلك المراسلات سلطان العوالق الأكبر والأوسع نفوذاً وجاهاً وسلطاناً، وهو السلطان/ عوض بن صالح بن عبدالله “سلطان العوالق العليا”، الذي وجّه رسالة طلبٍ سياسية مُحكمة الأركان والمحتوى، لكنها كانت رسالة سلاطين من الدرجة الرفيعة، حيث وضع فيها مجموعة اشتراطات وقواعد سياسية وإدارية وتنظيمية وأخلاقية لتلك الوحدة المتوخاة والمأمولة بين سلطنات العوالق وبين الدولة المتوكلية اليمنية لضمان استمرار وديمومة تلك الدولة المستقبلية، ضمّنها في رسالة الطلب للانضمام بتاريخ 13 جمادى الآخر سنة 1371هـ ، وكانت الرسالة عبارة عن وثيقة تاريخية مكونة من ستة عشر فقرة مع مقدمة وخاتمة إضافيتين، أضفت على الوثيقة السلطانية شيئاً من المهابة والجلالة والاعتزاز بالذات اليمنية الخالدة العظيمة، أبرز محتوى ما ورد في الوثيقة الآتي:
وقالت الوثيقة (إنه لشرف عظيم أن أتقدم إلى جلالتكم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن عشيرتي وأفراد عائلتي وقبائل العوالق العليا لمبايعة جلالتكم وامتثال أوامركم ونواهيكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة شريعة الله سبحانه وتعالى ومنع العسف والجور وما إلى ذلك من الأعمال التي لا ترضي الله ورسوله، مع اعترافي بأن مقاطعة العوالق العليا جزءاً لا يتجزأ من اليمن، فالجامع لنا الدين واللغة، والوحدة القومية والاقتصادية والتاريخ والعادات والمصالح المادية والمعنوية).
وبهذا الاستهلال والمقدمة الرصينة بدأ السلطان/ عوض بن صالح العولقي رسالته (الوثيقة التاريخية للوحدة اليمنية)، وهو مدخل موزون بحكمة ووقار، شخّص فيها السلطان الضرورة التاريخية لمثل تلك القضية الشائكة وهي الوحدة بين السلطنة في نصاب عاصمة السلطنة العولقية العليا وتوابعها من أرض العوالق أينما حلّوا وسكنوا، والمملكة المتوكلية اليمنية وعاصمتها صنعاء التاريخية.
طلب السلطان/ عوض بن صالح العولقي في وثيقته التاريخية من جلالة الإمام /يحيى آل حميد الدين القضايا والمفاصل الآتية وبالذات في شؤون الحكم المحلي الداخلي:
إشراف السلطان على الشؤون الداخلية للسلطنة مثل تعيين الأفراد الأكفاء من أبناء السلطنة على مقاليد الإدارة، وحصر الحكم عليه أي السلطان وأبنائه وأحفاده جيلاً بعد جيل في آل عوض بن عبدالله وفي الجانب الروحي في الحبايب الساده من آل الحداد، ويعاملوا آل عوض وآل الحداد في إطار هيكلية الدولة المتوكلية من فئة الدرجة الرفيعة من (الحشمة، الاحترام، والإعزاز والتكريم)، أي يعاملوا بدرجة الـ “vip” كما هي اللغة العصرية لطبقة الرؤساء والملوك والأمراء المفكرين ورجال المال والأعمال والنخب المثقفة اليوم.
تكون جميع التشريعات واللوائح والنُظم اللوائحية الإدارية وغيرها مستمدة من الدين الإسلامي ودون تجاوزه.
طلب السلطان العولقي من جلالة الإمام بأن تتولى السُّلطة المركزية في صنعاء القضايا والأمور المركزية، مثال على ذلك: التمثيل الخارجي وقضايا الأمن والقوات المسلحة والنظام النقدي والمالي، وأضاف عليها التربية والصحة والاتصالات والمواصلات، كل تلك الاختصاصات يتولاها المركز أي العاصمة صنعاء.
أما موضوع الضرائب والجمارك والجبايات تكون كصلاحية السلطان في السلطنة، وبررها في تغطية النفقات للعائلة والمسؤولين وشيوخ القبائل وغيرها من المصروفات.
رفض السلطان العولقي أن تكون للسلطنة وأجهزتها أية علاقة سياسية أو دبلوماسية أو أي اعتراف بالحكومة البريطانية وتواجدها بمستعمرة عدن، وأنه يعلن رفضها إن وجدت ويتبرأ منها بالكامل، ولذلك – ولأسباب دينية وأخلاقية وسياسية ووطنية عروبية – يُفضل السلطان ومستشاروه أن تكون الوحدة مع صنعاء هي الأمل والملاذ والحل والهدف الأسمى.
وكتب السلطان في هذا الجانب ما يلي:
(إن المعاهدة التي تزعم بريطانيا بأنها تربطنا بها لا نعترف بها، ولم يسبق أني وقعت على معاهدة مع بريطانيا، وإنني أصرح برفضي لتلك المعاهدة المزعومة مع والدي، إذ أنها تخالف النظام الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة ومبادئها والحقوق المشروعة دولياً وعادةً وعرفاً ومنافياً لمبدأ تقرير مصير الشعوب نفسها بنفسها بحرية كاملة، وإنني أعلن عن أفراد عشيرتي وقبائلي بأننا لم نقبل ولن نقبل بهذه المعاهدة المزعومة، ولن نقبلها، ونسجل على أنفسنا أننا سندافع في سبيل بلادنا وعلينا عهد الله وميثاقه في طاعة الإمام أيده الله والتعاون معه إلى أقصى حد ممكن على ما يرضي الله سبحانه وتعالى وعلى ما يحفظ الأوطان من دنس الاستعمار، والله شهيد علينا).
بعد الانتهاء من كتابة الرسالة – الوثيقة التاريخية – ذيّلها بتوقيعه وختم سلطنته بالقول، أقر وأعترف بذلك وأنا السلطان/ عوض بن صالح العولقي.
وبطبيعة الحال كان رد الإمام المبجل/ أحمد بن يحيى آل حميد الدين إمام المملكة المتوكلية اليمنية بالموافقة والتصديق على طلب السلطان العولقي “سلطان العوالق العليا وضواحيها”، بتاريخ 13 جمادى الآخر سنة 1371 هـ، وبذلك تحققت أولى بذور الوحدة اليمنية الحديثة في القرن العشرين من زمننا المعاش.
العبر والدروس من تلك الواقعة:
ـ أولاً:
قبل مائة عام وجزء من الشعب اليمني في جنوب اليمن طالبوا بالوحدة اليمنية، رفضاً للاستعمار البريطاني الاحتلالي وعملائه من اليمنيين الذين تم شراؤهم يوم ذاك بالجنيه الإسترليني، تخيلوا معي أنه وقبل مائة عام كان هناك أحرار يمانيون يرفضون مبدأ الاحتلال الأوروبي البريطاني، ويأتي اليوم عدد من المرتزقة العُملاء من اليمنيين يطالبون المستعمر القديم وهو العدو البريطاني أن يأتي إلى جنوب الوطن مرةً أخرى لكي يساعدوه في احتلال أرضنا اليمنية الطاهرة، أليست مفارقة عجيبة أن يأتي أحفاد العُملاء لكي يواصلوا رسالة عمالة وارتزاق أجدادهم !!!.
ـ ثانياً:
مثّلت قضية الوحدة اليمنية مِحور ارتكاز نضالات الأحرار اليمانيين بالأمس واليوم، فقبل أن يقرر سلاطين العوالق والعديد من شيوخ القبائل اليمنية الجنوبية أن يلتحقوا بقطار الوحدة، كان هناك تاريخ طويل من الاتحادات اليمنية في التاريخ، وأبرزها اتحاد الدولة اليمنية المركزية الموحدة لدولة سبأ، و ذو ريدان، وحضرموت، والتهائم والطود، نعم توق إلى الوحدة مع الاحتفاظ بالخصوصية المحلية لكل إقليم، وقد شهد التاريخ العريق لليمن بوجود قرابة ثمانين مخلافاً حكمت اليمن وأنتجت حضارات تاريخية ببُعدها الديني والثقافي والسياسي، وقد أشار لها العديد من المفكرين العرب والأجانب واليمنيين أبرزهم المفكر العراقي/ فاضل الربيعي، والمفكر اللبناني/ كمال صليبيا، والمؤرخ المفكر اليمني/ يوسف، وغيرهم من المفكرين والمؤرخين.
ـ ثالثاً:
المؤسف حقا سيادة ثقافة العوام حينما لا يتم سماع صوت الفكر والعقل والبيان والحُجج التاريخية، نلاحظ أن حرب مفردات التسطيح والابتعاد عن جوهر الموضوع وسيطرة لغة الغوغائيين عادةً ما تنشط وتنمو وتزدهر في ظروف التخلف الثقافي وسيادة الفقر والجوع الموضوعي أحياناً والذاتي في أحايين من الزمن، ولذلك يزداد الاعتماد على الترويح الغوغائي باستخدام مفردات شعبوية هابطة لينساق خلفها طبقات العوام الذين يفتقرون إلى الوعي الجمعي المتكئ على قيم الأخلاق والدين الإسلامي الحنيف والمبادئ الإنسانية السامية.
سنلاحظ أنه جرى الترويج لمفردات خادعة كالهوية الجنوبية، والقضية الجنوبية، والظلم الموجه من الشماليين للجنوبيين، وغيره من المفردات الساحرة كذباً وتزويراً لحقائق التاريخ.
لنأخذ الأمثلة الملموسة في التاريخ القريب التي حاول طمسها وإضاعتها مفكرو الغوغاء ونطرحها هنا بجلاءٍ من خلال عددٍ من التساؤلات:
من قام بنهب وسرقة أملاك المواطنين اليمنيين والأجانب في مطلع سبعينيات القرن العشرين من خلال ما أسموه آنذاك بإجراءات (قانون) التأميم التي نفذتها أجهزة سلطات دولة تنظيم الجبهة القومية وبعدها واصل المسيرة الحزب الاشتراكي اليمني؟!.
من قام بانتزاع ملكية الأراضي من المواطنين اليمنيين في ما كان يسمى بالانتفاضات الفلاحية؟!.
من قام بالاختطاف والسحل والقتل الجماعي للعلماء والمشايخ والوجاهات الاجتماعية وحتى الثقافية في جنوب اليمن؟!.
من عمّم ثقافة التطرف الفكري والذهني اليساري الشاذ في المدن الجنوبية والشرقية ومحاربة فقهاء الدين الإسلامي وتشريدهم من عدن وحضرموت؛ أمثال العلامة/ محمد بن سالم البيحاني، والعلامة/ باحميش، والشيباني، والكاف، وبن حفيظ، والعطاس والحبشي وغيرهم؟!.
هل نستطيع أن نتوقف قليلاً، ولبرهةٍ واحدة لكي نُفعِّل بصيرتنا وبصرنا وعقولنا وتفكرنا، بأن كل تلك التساؤلات الموضوعية أعلاه بأن الإجابة عليها وعنها أن الفاعل الحقيقي هم الحُكام والقادة الحقيقيون لجنوب اليمن (حكام الجبهة القومية) دون سواهم، وبالذات من امتلكوا أدوات القوة (الجيش والأمن) من حُكام الجنوب اليمني، نعم هم وحدهم الذين كانوا وراء كل تلك الجرائم البشعة التي يندى لها جبين كل حُرٍ في العالم وليس في اليمن فحسب.
ـ رابعاً:
مُنذ أن بدأت تتشكل قواعد أسس وأركان الدول وحتى الدويلات اليمنية، وحين استشعار الخطر من العدو الخارجي بأنه يتربص بهم، نجدهم يتوحدون طواعية ودون إكراه، وهذه هي سردية تاريخية يمانية منذ فجر التاريخ.
ـ خامساً:
حينما يقارن القارئ بين (وثيقة) رسالة السلطان العولقي، وهي فعلاً وثيقة تاريخية بامتياز، ومقارنتها بصفحات محدودة تم من خلالها إعلان الوحدة اليمنية الاندماجية بين ما كان يُسمّى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ويمثلها الرفيق/ علي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني (جناح الطُّغمة)، والجمهورية العربية اليمنية ويمثلها الرئيس/ علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية ورئيس تنظيم المؤتمر الشعبي العام، يجد أن هناك فرقاً شاسعاً بين الوثيقتين (السلطانية والحداثة)، فرق في الدلالة والعمق والمعنى والقيمة الإنسانية والتاريخية.. وهنا لنا أن نتأمل في الفارق!!!.
ـ سادساً:
في مثل هذا الجدل السياسي الدائر في الأوساط والأحزاب والجماعات السياسية اليمنية حول شكل ومضمون وطبيعة الوحدة اليمنية الحالية والقادمة بعون الله، بعد أن عصفت بالدولة اليمنية والشعب اليمني، كل تلك الأزمات والعواصف والحروب والاعتداءات والحصار الظالم وصولاً لاحتلال أجزاء غالية وعزيزة من الأرض اليمنية ووقوعها تحت الاحتلال السعودي – الإماراتي – الأمريكي.
في خضم تلك الأحداث فلا بد من التفتيش عن الدور المشبوه (للحية الرقطاء السامة)، ذلك الدور الخبيث الذي لعبته إبان احتلالها لمدينة عدن وبقية السلطنات والإمارات في جنوب اليمن قبل 100 عام ونيف، وذات الدور السيئ في مرحلتنا الراهنة، لأن ملف الاستعمار البريطاني الاحتلالي للعديد من بلدان العالم لم تقفله ولن تقفله طالما وهناك مصالح لها وهناك عملاء يخدمونها.
ـ سابعاً:
رسالة الشيوخ العوالق الأحرار وحلفائهم من أهل الحل والعقد من شيوخ القبائل والحبايب الهاشميين والتي دبجوها بأحرف من نور وذهب قبل 100 عام، تنبهنا لشيئين:
أولاً:
العداء المطلق من قبل اليمنيين للاستعمار الأجنبي، أياً كان هذا الاستعمار سواءً أكان عربياً أو إسلامياً أو أجنبياً.
ثانياً:
تمسك اليمانيون شماليين أو جنوبيين بهويتهم اليمنية الأصيلة، وهذه حقيقة ثابتة في الماضي والحاضر، وقد دلت شواهد التاريخ البعيد حينما أسّسوا الدولة المركزية لمراتٍ عدة، هي دولة سبأ وريدان (ونعني بها حِمْيَر) وحضرموت والتهائم والطود، وبعدها العديد من الممالك التي غطت الجزء أو الكل من الوطن اليمني، واليوم ها نحن نعيش في زمن الوحدة اليمنية المباركة التي يتم الاعتداء عليها ظلماً وجوراً وعبثاً من (الأشقاء الأعْرَابْ فيما يُسمى بـ مجلس التعاون الخليجي العربي المُتصهين).
الخلاصة:
اليوم وبعد 100 عامٍ من وثيقة الاتفاقية بين شيوخ العوالق في الشطر الجنوبي من الوطن والنظام الإمامي في الشطر الشمالي من الوطن، على الطبقة السياسية من جميع المشارب، والنُخب المثقفة من المفكرين الأكاديميين والعلماء ذوي النهج الإسلامي القويم والكُتاب والإعلاميين بأن يدرسوا بمسؤولية عالية الإرث التاريخي للدولة في اليمن والخروج بما يردم الهُوة السحيقة بين شطحات البعض ونزقهم السياسي تجاه القضايا المصيرية للشعب اليمني والبحث بواقعية سياسية عقلانية عن حلول حقيقية لتعايش الجماعات والأفراد والطبقات والفئات الاجتماعية للشعب اليمني، والحل ينبُع من إرادة وطنية يمنية حقيقية.. والاتعاظ من دروس التاريخ هي الوصفة السحرية لحل مستقبل اليمن السعيد بإذن الله تعالى وهِمّة وصِدق الأحرار في اليمن، كل اليمن.
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
رئيس وزراء حكومة الإنقاذ الوطني – صنعاء