قيمة ما يحمله الإنسان من أفكار لا تقاس بمستوى نزوعها إلى الخطاب العقلي المجرد، أو بإغراقها الكلي في كل ما له علاقة بالقيم الجمالية والفنية، وإنما تُقاس بمستوى قدرتها على إحداث تحولات ملموسة في واقع المجتمع الذي نشأت فيه، واعتبرته ميداناً لها، فهي دوماً الحريصة على توليد الكلمات التي تدخل إلى القلوب، فتبعث الضمائر بعد موتها الطويل، محدثةً بذلك انقلاباً على كل المفاهيم والتصورات التي ظلت النفوس أسيرةً لها مدةً من الزمن، دافعةً نحو إقامة علاقات اجتماعية سليمة من كل مظاهر الظلم والاستغلال الطبقي، بعيدة كل البعد عن شتى صنوف المعاملات القائمة على الغش والكذب والاحتكار، خاليةً من كل ما يشجع على بقاء الجهل المدمن على تقديس الخرافات، والعامل الرئيس في زيادة نموها واتساع دوائر تأثيرها والتأثر بها، موجهةً نحو التزام الإيجابية المطلقة في كل السلوكيات التي تنطبع بطابعها حركة المجتمع في أقواله وأفعاله وسائر ممارساته المتبعة لمزاولة جميع أنشطته في ميادين حياته كلها، وهي في ذلك كله: متصلةٌ بالله، ممتثلةٌ لتعاليمه، لكي تستطيع إيجاد الإنسان القادر على العطاء في عالم الشهادة، بناءً على ما يخلقه في نفسه إيمانه بالغيب من دوافع للحركة العملية، ويحدده له من غايات وأهداف استوطنت روحه، وسيطرت على كل نوازعه الحسية والشعورية، بفعل ما وعاه من الخطاب الإلهي المتضمن بيان مآل كل عمل من حيث نتيجته المحكومة بمقتضى وعد الله ووعيده، فتتربى النفوس على مراقبة الله، محققةً بذلك الاستقامة في كل شيء، تسير بثبات نحو غايتها مهما كان حجم الخطر ومستوى التحدي.
وهكذا يعمل الدين على أنسنة الفكر، وذلك بتحوله إلى أيديولوجيا تنظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وتفتح له آفاق معرفته بالكون والوجود من حوله، لكي ينفتح على الزمن ليعي دوره التاريخي، ويدرك وظيفته على هذه الأرض، ولكن ما إن تتمكن هذه العقيدة أو الأيديولوجيا من النفوس، فتصنع تحولات كبرى، وتقضي على أصنام وفراعنة وطواغيت، وعادات وأفكار ومعتقدات جاهلية، حتى تصطدم بها مرةً أخرى، وإنْ بأشكال مختلفة على ما كانت عليه في الماضي، إلا أن المضمون يبقى واحداً على كل حال أياً كان الشكل، ومرد كل ذلك إلى المعتنقين لتلك العقيدة، الذين تتحول القداسة في ذهنيتهم شيئاً فشيئاً من قداسةٍ للفكرة ومصدرها الذي هو الله تعالى، إلى قداسة للنظام المتبع، والشخصيات القائمة عليه، فيُحرم النقد، ويُجرم أي فعل احتجاجي على أي عمل من قبل الرموز فيه خروج عن الثوابت، ليصبح الواقع كله قائماً على التصور الفكري المنغلق والمحدود، محكوماً بعصى الظلم والاستبداد، فتتحقق بذلك القابلية للاستعمار والذلة والانحطاط في النفوس من جديد.
ولا بد من التنبيه في نهاية المطاف إلى الحقيقة التي تقول: إن خونة الفكرة الحقة يعملون دائماً على إلهاء الجماهير بقضايا بعيدة عما يقاسونه من ظروف، ويمرون به من معاناة، همهم الوحيد هو: حماية مواقعهم ورموزهم، حتى وإنْ كان ذلك مؤدياً إلى تراجع القيمة للفكرة بفقدان آثارها تدريجياً، أو إماتتها بالمطلق، سواءً في نفوس الناس أم في واقعهم.
* نقلا عن : لا ميديا