لفتة نقدية
قبل خمس عشرة سنة، وفي رحاب “الجمهورية” في المدينة التي كانت “تعز” (سابقاً)، وكنت حينها مشرفاً على الصفحة الأدبية، أوقفني رجل يتبعه فتى شاب أسمر:
- هذا ابني، معاذ، شاعر، آمل أن تسمع منه!
- تفضل يا معاذ!
قرأ معاذ ثلاث قصائد. في الثالثة سألته سؤالاً مستفزاً، وأبوه يملؤه الإعجاب:
- من كتب هذا الشعر؟! من كتبه لك؟! من أين نقلته؟!
ارتبك بالجواب. قلت للوالد، الذي بدت عليه علامة الزَّهو:
- إن كان هذا شعر معاذ فله مستقبل باهر.
وقد كان ذلك لشعر معاذ؛ بدليل هذا الإبداع الدافق الممتاز نبعاً ثرياً طرياً يستقبله من عالم الغيب ومساقط السماوات. والشعر الجميل هو -كما قال ميخائيل نعيمة- في مجلة: “إن رأيت نفسك في شعر شاعر فاعلم أنه شاعر”. و”نعيمة” بهذه العبارة الموجزة المكثفة يلفتنا إلى التجربة الشعرية، التي يسميها الناقد الفرنسي ميكال ريفاتير تداخل شبكات العلاقات والأنساق، تلك التي تكوِّن نصاً أدبياً.
ولقد دارت نقود الشعر العربي في القديم والحديث حول عنوان مثير اسمه “الموازنة” بين شاعر وشاعر، ولم أشأ أن أقول “السرقات”؛ باعتبار ذلك مصطلحاً صادماً.
وسماه المحدثون “التناص”؛ فشاعر يتناص مع آخر بمعنى أن يسرق معانيه ليصوغها صياغة جديدة. وقد أصدر القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني، ثم أبو الحسن الآمدي، كتابين أوقفاهما لهذا التناص، واتفقا على أن السارق إذا سرق المعنى وأخرجه في صورة بليغة بديعة فإنه يحسب له بدون منازع.
لقد ألف القاضي الجرجاني كتابه الموسوم بـ”الوساطة بين المتنبي وخصومه” وتعهد أن يكون حكماً بين أبي الطيب وبين هؤلاء الذين تكالبوا عليه وحاولوا أن يحطوا من قدره حسداً من عند أنفسهم؛ فتدخل الجرحاني -قاضياً- لفصل الخصومة؛ ولكنه -كقاضٍ “غير نزيه”- مال إلى المتنبي. أما أبو الحسن الآمدي فصدَّر نفسه قاضياً “نزيهاً” يعلن نفسه ملتزماً بشروط القضاء، فيكتب كتاباً بعنوان يشبه ميزان وزارة العدل المطل من فوق مبنى الوزارة، وهو: “الموازنة بين الطائيين”؛ وهما أبو الوليد البحتري وأبو تمام؛ وهما ينسبان إلى قبيلة طي اليمنية.
وخلاصة موازنة الآمدي أنه وازن ولم يتوخ العدل، بل مالت شوكة الميزان لصالح البحتري الشاعر كما وصفه أبو العلاء المعري حين قال مجيباً من سأله أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري.
إن من خصائص شعر المتنبي المبالغة واختراع المعاني والحرص على خلق “المفارقات” التي تميز الأدب أو الأدبية التي يعنيها الناقد الفرنسي لانسون، الذي عرف الأدب بأنه “ظلال ومفارقات قد لا تحتويها الألفاظ بغير الإيماءة الخفية والإيحاء البعيد”. ولعل هذا أروع تعريف دقيق فيما أعلم.
فها هو المتنبي يصف سيف الدولة بلغة شعرية مفارقة:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
وقوله:
أَتَحْسَبُ بِيْضُ الْهِنْدِ أَصْلُكَ أَصْلَهَا
وأَنَّكَ مِنْهَا؟! سَاءَ مَا تَتَوَهَّمُ
إِذَا نَحْنُ سَمَّيْنَاكَ خِلْنَا سُيُوْفَنَا
مِنَ التِّيْهِ فِي أَغْمَادِهَا تَتَبَسَّمُ
ومن خصائص شعر المتنبي ضجيج القافية.
وقد سبقني الشاعر والناقد صلاح الدكاك حين أطلق على معاذ الجنيد عنوان “النشيد الوطني”. وأحاول أن أحدس تأثر معاذ بأبي الطيب من خلال هذا النص الذي رثى به معاذ الفتى الشهيد أبا الفضل (طومر). وها أنا أقطف منها هذه الباقة:
سبحانك اللهم من قاهرِ
وكل من والاك لا يقهرُ
يا “تُبَّعٌ”، يا “مَعْدُ”، يا “حِمْيَرٌ”
يا “سيفُ”، يا “قحطانُ”، يا “شَمَّرُ”
لقد قضينا العمر يا سادتي
ونحن في أمجادكم نفخرُ
لكنها اليوم تلاشت فقد
غطى على تاريخكم “طومرُ”
كل البطولات التي سُطِّرت
ذابت وغابت خلف من سطَّروا
فلتحترق أمجاد “طروادة”
ولينحنِ الإسكندر الأكبرُ
وليغرق “الزيرُ” بخيباته
وليعتذر من شعره “عنترُ”
بعد الذي أبلى “أبو فاضل”
ما عاد في التاريخ ما يبهرُ
“هاني” الذي وفّى كما ينبغي
وكل من فوق الثرى قصَّروا
خاض اقتحاماتٍ أحاديةً
في خاطر الأخطار لا تخطرُ
الحرب في أعتى احتداماتها
فالأرض نارٌ، والمدى صرصرُ
رفاق “هاني” حوصروا والعدى
من كل صوب بالردى عسكروا
والإخوة الجرحى جراحاتهم
تسير نحو الموت إن أخّروا
الأرض بالأخطار محفوفة
والدرب في إسعافهم أخطر
مُهمَّةٌ تحتاج في حسمها
لمعجزات حيةٍ تُحضر
دهماء لا يقوى عليها سوى
أن يُبعثَ “الكرَّارُ”، أو “شَمّرُ”
أو “الحسين” السبط أو “حمزة”
“زيد” أو “العباس” أو “جعفر”
كأنّ أمراً جاء من ربه
مشابها “فاصدع بما تؤمر”
و”فاضل” يتلو بأعماقه
“إذا لقيتم”، “فاثبتوا”، و”اذكروا”!
وحتى نهاية المشهد يقف المشاهد أمام شريط تسجيلي يرسم بعدسة كبيرة (Zoom) حادثة فريدة في التاريخ، موجزها: عبقرية فتى مقاتل يتحدى الموت المحقق والمباشر!!
كما يسمع الناقد صدى صيحات المتنبي وهو ينشد سيف الدولة في بلاد حلب!
شعر معاذ خليط بين جنسين: الخُطبة والقصيدة، وإن كانت الخُطبة يغلب رنينها أفق القصيدة، إلا أن ذلك كله يقدم شاعراً يذكرنا بقول المثل السائد: “كل ذي نعمة محسود”.
* نقلا عن : لا ميديا