يدورُ جَدَلٌ واسعٌ هذه الأيّام حول المدوَّنة السلوكية، البعضُ يطرَحُ فكرةَ البُعد الطائفي مستنداً إلى فكرة الولاء، وفكرةُ الولاء لله والرسول والمؤمنين قضية لا خلاف عليها، هناك خلاف حول التفسير والتأويل وقد اتخذت السياسةُ فكرةَ الولاية والولاء والبراء مطيةً لتبرير الوصول إلى السلطة.
ولذلك كانت الفكرة جدلية في القديم؛ بسَببِ المبرّر الغائي لها، لكنها في المدونة عكس التاريخ تماماً، فالمدونة حزمة مبادئ وقيم ومحدّدات سلوكية تسير في ثلاثة اتّجاهات، اتّجاه يخص الفرد بخالقة، وهذا أمر يخص الفرد، واتّجاه يخص الفرد بمحيطة في العمل، وهذا أمر يخص السلطة؛ لأَنَّها معنية به وكل ما يصدر عن الفرد/ الموظف يمثلها، واتّجاه يخص الفرد بمجتمعه وهذا يخص النظام العام والطبيعي؛ لأَنَّ انهيار النظام العام والطبيعي في الحياة مفسدة وضياع وتيه ودوران في الفراغ.
الفكرة الأخلاقية من خصائص الإسلام الكبرى، فقد ركزت الرسالة المحمدية على الفكرة الأخلاقية بل جاء النص ليؤكّـد هذه الخصيصة الكبرى، فالقضية الأخلاقية قضية مهمة في انتظام حياة البشر والمجتمعات، ولا تنهار المجتمعات إلا إذَا انهارت فكرة القيم والمبادئ وانهار نظامها العام والطبيعي، فالحياة تتحول إلى جحيم لا يطاق، لذلك فالغضب من الفكرة الأخلاقية في المدونة السلوكية في غالب اليقين غير مبرّر حتى لو حمل فكرةَ الطائفية وفكرة الصراع في الولاية والولاء والبراء -وهي فكرة كما سلف معنا اتخذت منها السياسةُ مطيةً للوصول للسلطة في تاريخنا الإسلامي-، فالنص الذي تم تفسيره وفق الرغبات والنوايا السياسية نصٌّ قرآنيٌّ واضح الدلالة، وهو يحدّد فكرة الانتماء، ولعل الجدل حول الفكرة أصبح واضحًا، فهو جدل سياسي عقيم يريد فساد النظم العامة والطبيعية، وفساد المجتمع حتى لا تستعيد المجتمعات قدرتها وطاقتها في البعث والتغيير والصناعة والابتكار.
ربما حدث خطأ في التعريف بالمدونة السلوكية من قبل الكثير، وربما رأى الكثير ممن يحملون الحقد الدفين والتاريخي على صنعاء ومن يحكمها، أن البعد القيمي والأخلاقي ضرر يهدّد مستقبل أجيالهم ومستقبل مصالحهم، ولذلك تصدوا للمدونة كأنها كارثة حلت على الأرض والإنسان.
لقد قلنا: إن اتّجاه الفرد مع خالقه يخص الفرد ولا علاقة لأحد في ذلك، أما من لا يريد ولاء المؤمنين ويريد ولاء غيرهم من غير المؤمنين خَاصَّة إذَا كان في مواقع قيادية كبرى فهنا تصبح القضية ذات أبعاد متعددة، بُعدٍ يخُصُّ المجتمع المسلم، وبُعدٍ يخُصَّ الدولة المسلمة، وبُعدٍ يخُصُّ الأُمَّــة الإسلامية برمتها، فالدولة المسلمة لا يمكنها أن تسير في مسارات تتعارض ومصالح عموم المسلمين وخاصتهم، فالكيان العام للأُمَّـة كيان واحد موحد وينبغي لمفردات الشتات أن تذوبَ في تفاصيله العامة وينبغي للأُمَّـة المسلمة أن تبنيَ كيانَها على قاعدة المصالح المشتركة بين الشعوب المسلمة أولاً وبينها وبين الشعوب الأُخرى بما يحفظ هُــوِيَّتَها وثقافتها وبنيانها العام والخاص.
أما نموذج الدولة التي توالي غيرَ المسلمين فقد رأينا في تأريخنا المعاصر – منذ نشأة الدولة الوطنية في القرن العشرين إلى يومنا المشهود – شتاتَ الأُمَّــة وضياعَها وتمزقها واستلاب إرادتها وضياع حقوقها وثرواتها ورأينا تأخُّرَها عن الركب الحضاري المعاصر، وعجزَها الكاملَ عن صناعة واقعها التقني والحضاري بما يتسق مع هُــوِيَّتها الثقافية؛ وبسبب فكرة الولاية لغير المؤمنين لدى الدولة الوطنية المعاصرة أصبح المسلمون قطعةَ شطرنج يحركها اللاعبُ الدولي كيف شاء وللغرض الذي يشاء، فمال المسلمين في السعوديّة مثلاً بدلاً عن أن يتحول لمنفعة المسلمين في عموم الجغرافيا المسلمة ها هو يقتلُ المسلمين في اليمن، وفي العراق، وفي سوريا، وفي ليبيا، وفي الكثير من الأوطان، يحدث؛ ذلك بسَببِ فكرة الانحراف في مسار الولاء وفق منهج الله لا وفق منهج البشر.
الولاءُ للغرب جعل أموالَ المسلمين تقتُلُ المسلمين لتحقيق أغراض لغير المسلمين، وبسبب هذا الانحراف في الطريق القويم تحول المسلمون إلى قطع شطرنج يحرِّكُها اللاعبُ الدولي ويديرُ اقتصادَها وسياستها ويضعف من قيمتها ومن مكانتها، بل كاد أن يقول للرأي العام العالمي: إن العرب والمسلمين أُمَّـةٌ متوحشةٌ بدون قيم ولا مبادئ تهدّد الحضارة الإنسانية المعاصرة؛ وبسبب هذا التوجُّـه حرّكوا الخلايا العنقودية في وسائل التواصل الاجتماعي كي ينالوا من كُـلّ عمل يعيد تهذيب النفوس وبناء القيم والسلوكيات في نفوس الناس.
في دول العالم المتقدم يغرسون القيمَ في صغارهم ويربّونهم على أخلاقيات بعينها بل تصبح المادة الأخلاقية جزءاً من منهج تربيتهم وفي دولة كالسويد مثلاً – التي تفتح أبوابها للإنسان من أية أرض كان – تأخُذُ ناشئةَ المهاجرين وتخضعُهم لمنظومة قيم خَاصَّة بالمجتمع السويدي وفي عالمنا العربي والإسلامي لا تكاد تجد مادةَ الأخلاق ذات قيمة، بل قام أحد الفلاسفة المعاصرين بحصر الكتب التي تتحدث عن النظرية الأخلاقية العربية فوجد أنها لا تتجاوز أصابعَ اليد الواحدة، في حين وجد المئاتِ من الكتب في باب الطهارة والنجاسة والنكاح، وهذا خللٌ كبيرٌ في البناء العام لرسالة الإسلام الذي جاء متمما لمكارم الأخلاق.
فالمدونة السلوكية -التي كال الكثيرَ التهم لها وقالوا: إنها جاءت لتؤصِّلَ فكرة الولاية والطائفية وما شابه ذلك من التناولات- لم تكن إلا مساراتٍ يرى الكثيرُ ممن اجتهد عليها أنها سوف تساهمُ في نهضة الأُمَّــة من كبوتها، وهي كذلك، فالأمم لا تنهض ولا تقوم لها قائمة إذَا فسدت أخلاقُها.
ولا أدري لماذا ينقمون من المدونة السلوكية إذَا كانت تهذيباً ومساراتٍ وقيماً أخلاقية؟!