لدى الكثير من أدعياء الثقافة، وأنصاف المتعلمين: حساسيةٌ مفرطة تجاه أي تحرك فكري أو عملي يهدف إلى إعادة الاعتبار للدين بمفهومه الصحيح والشامل، إلى الحد الذي يجعلهم متغاضين عن معظم الأشياء التي تتهدد حياتهم وواقعهم، ويتساهلون مع المستكبر والمحتل، من خلال السكوت عن جرائمه، والضرب صفحاً عن تنبيه المجتمع والأمة لطبيعة الخطر المترتب على بقائه واستمراريته، أو الحث على السعي لمواجهته، واقتلاعه من أرضنا وأفكارنا، والتحذير من عاقبة التفريط في ذلك، لاسيما إذا ما اختار غالبية الناس الحياد، وفضلوا السلامة مع الذل والهوان والعبودية، على التضحية والبذل مع العزة والكرامة والاستقلال والحرية، إذ يرى أولئك الأدعياء للثقافة وأنصاف المتعلمين: أنه لا يوجد خطرٌ يتهدد وجود الأمة ومصيرها حاضراً ومستقبلاً، يمكن له أن يرقى لمستوى الخطر الناتج عن إقامة الدين في واقعها! ولذلك فهم على استعداد لتجميد كل الصراعات مع الأعداء، أو في ما بينهم، لكي يوجهوا كل جهودهم وطاقاتهم لتصدي لأي دعوة أو فكرة أو حركة من شأنها أن تعمل على بناء الأمة نظاماً وفكراً وحركةً عمليةً على أساسٍ ديني.
ونحن هنا: لا نهدف من وراء الإثارة لهذه الحقيقة إلى النيل من أصحابها، بقدر ما نهدف إلى الكشف عن الأسباب والمقدمات التي أسهمت في صنع هذه المشكلة التي يعاني منها هؤلاء كأفراد وجماعات، والذين ظل انتماؤهم إلى الإسلام انتماءً شكلياً لا أقل ولا أكثر، فهو عندهم: ليس سوى مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي توارثوها كعادات وتقاليد عمن سبقهم، واختزنوها كصور مشوشة باهتة، لا تكاد تشير إلى أي معنى، أو تبين عن أي طريق يمكن السير فيه، أو التزموها كمضامين كلية مع وجود الجهل المطلق بمجمل تفاصيلها، سواءً على المستوى العبادي، أو التشريعي، وقد أسهمت الكثير من الأسباب في إيصالهم لمثل هذا الحال أبرزها:
أولاً الأسباب السياسية، إذ كان لما عاشته الأمة من ظلم وإفقار طوال فترات متعاقبة من العصور المظلمة، إبان حكم السلطنات والسلالات المختلفة، بدءا من الأمويين والعباسيين،، وصولاً إلى العثمانيين، انعكاس سلبي على النفسية الإسلامية، لاسيما وكل أولئك كانوا يحكمون باسم الإسلام، ويدعون تمثيله، بالإضافة إلى استغلال المستعمر لكل حالات الاستلاب والضعف والتمزق التي عاشها المسلمون لصالحه، بحيث يجعل من ثقافته وأفكاره وسياسته ونظمه الحل السحري الذي بإمكانه أن يضمن لنا التقدم والرقي في الركب الحضاري، مع قدرته على الحد من جميع مشاكلنا، وأمام هذا كله لم يكلف المسلمون أنفسهم عناء التفكير، فيجعلون من الإسلام حجةً على السلاطين والملوك، لا أن يجعلوا من ممارساتهم وجرائمهم حجةً على الإسلام، نتيجة الانبهار بالغرب الذي سلب عقولهم، وجمد أفكارهم، فبتنا نسمع مقولة: فصل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع وغيرها.
ثانياً الأسباب التربوية والتعليمية، إذ لا يحتل الدين لدى الأسرة إلا الحيز الذي يدفع الأب لملاحقة أداء الأبناء للفرائض، دون العمل على بيان غاياتها لهم، وتحبيبهم بها، أما المدرسة فقد اكتفت بمادة جافة ليس فيها روح، سمتها التربية الإسلامية، يتلقاها الطالب مرة أو مرتين في الأسبوع، بطريقة تلقينية قاسية، تركز على أحكام العبادات ومتعلقاتها، مع عزوفها الكلي عن طبيعة الحياة ومشكلاتها، وتساؤلات التلاميذ عن كل ما يجري من حولهم، الأمر الذي أفقدهم الاحترام لكل ما هو ديني، وجعلهم غير مدركين حقيقة ما يعنيه الدين، وما الذي بإمكانه تحقيقه لهم، إن هم تمسكوا به، واستهدوا بهداه.
* نقلا عن : لا ميديا