تتوقف عن الكتابة مؤقتاً لتتذكر زماناً حسبت فيه أنك وبسنك المبكرة ستغير خارطة الدنيا وستبدل خريطة العالم بسن قلمك. مُبكراً وعلى عادة أبطال الأفلام العربية سبعينيات القرن العشرين وديجيتال الأفلام الغربية عشرينيات القرن الحادي والعشرين، تخيلت نفسي قادراً على تبويب الأخطاء وتصويب الخطايا، ترتيب الأماكن وتوظيب الأشياء، تهذيب القصائد وتأديب الحكايا، ترغيب الكتب وترهيب الطاولات... لأكتشف متأخراً -متأخراً جداً- أني أعجز عن تحويل الأماني إلى ماء وخبز ووسادة وسقف، وأني أجهل تحليل الأغاني إلى أنسولين وأنتيبيوتك وأجهزة غسيل الكلى، وأني أفشل عن تعديل مزيج الحكومات ومزاج الحكام.
كتبت عن كل الأهوال وعن جميع الأحوال؛ للبسطاء وبسطاتهم، للأغنياء وسلطاتهم، للأغبياء وسقطاتهم، للأذكياء وإسقاطاتهم، للأصدقاء وطقطقاتهم، وللأعداء وقطقطاتهم. ذهبت إلى كل اتجاهات الصباح وعدت أعدّ أدراج الرياح. قاتلت في جميع جهات الظلام ورجعت بصحبة العواء وجعجعة طواحين الهواء. غادرت الأحلام بحثاً عن الأيام، وسافرت على مطايا الطموح أقطع الليالي وتقطع الخطوات أنفاسي، لأطرق في النهاية باب قلبي وأصرخ فيه: افتح!
***
التغيير يبدأ من هنا: ما بين البطن والبطين، وما بين الأذن والأذين. حسبه البعض في الستين، واحتسبه البعض الآخر مع السبعين. أما أنا فاحتسبت الله وحاسبت كل من كانوا في التحرير ومع التغيير. ستجدونهم حتى اليوم ينعقون: الوطن، ويلعقون الوثن، يعتنقون الربح ويعانقون الرباح، يصيدون العصيد ويتصيدون السبايا، يُغرمون بالتفاهات ويَغرمون الوجوه، يهتفون للنشيد ويهاتفون خدمة العملاء، يصطفون على أرصفة السفارات ويطففون طوابير الصباح، يسترقون السمع في الجبهات ويسرقون الكحل من أعين المتارس، يرمون سواهم بداء الكلب ويرتمون نباحاً في طريق القوافل، يلوون شرايين البلد ويتلوون بين أوردة البلاد، يبكون على لبن الجمهورية المسكوب ويتباكون على حليب الربيع السعودي، يختلسون أرصدة الثكالى ويخلسون جلود الشهداء، يبيعون الحلم في قوارير «المدكا» ويبتاعون الوهم في تقارير آخر الليل، ينقرون على كيبوردات العمالة ليلاً ويقفزون فوق كراسي الوزارات ثامنة كل صباح سبتٍ وأحد، يتسللون بين أصابع الزناد لصوصاً ويستلون خناجر الظهر من أغمدة القهر من الشهر إلى الشهر، يقاسمون الجرحى الأسرّة والقطن ويقتسمون مع التماسيح دموع الأرامل واليتامى، يسوقون الناس خلف شياطينهم ويسوّقون اليأس عشم إبليس بالجنة، يجولون كالجواري إماء العدوان ويتجولون في الحواري تحريضاً على الماء والسماء، يبدلون جلودهم عند كل جولة ويتبادلون وجوههم مع كل دولة، يصرخون أمام الكاميرات: الموت لأمريكا، ويصيحون خلف العُزَى ووراء اللات: اعلُ هُبلْ!
***
تتوقف عن الكتابة وتستمر في التحديق إلى وجوه العابرين أمام المستشفى الجمهوري وخلف مركز غسيل الكلى وعند فرزة التحرير ومفرزة الخمسين وجولة الجمنة وعلى جسر مذبح وكبري بيت بوس وفي أنفاق سعوان و45 وبين سوق عنقاد وعنس والعرولي وفوق موتورات الحصبة والحثيلي، خلال أبواب البلقة والسبح وشعوب وتحت عقد باب اليمن...
تتوقف عن الكتابة وتمضي في قراءة العبارات المكتوبة على جدران فلل حدة وقصور العشاش.
لتبتسم أخيراً وأنت تقرأ على الزجاج الخلفي للدبّاب الذي يسير أمامك متفائلاً بين حُفر هائل: لا يأس مع الحياة ولا حياة لمن تنادي!
* نقلا عن : لا ميديا