الشهادة في سبيل الله “سبحانه وتعالى” هي عطاءٌ عظيمٌ، وهي فيما يتعلق بالعطاء هي أسمى عطاء يجود به الإنسان، أن يهب الإنسان روحه وحياته هو أسمى عطاء وأعظم عطاء، وهذا ينطبق عليه أنه عطاءٌ في سبيل الله، عندما تتوفر فيه عدة عناصر أساسية، وتشمل:-
أن يكون المنطلق الذي يتحرك الإنسان فيه وهو حاضرٌ لبذل روحه، منطلقاً سليماً، صحيحاً، سامياً، عظيماً، راقياً، وأسمى نية، وأسمى هدف، وأعظم مقصد،
أن يكون ذلك من أجل الله “سبحانه وتعالى”، استجابةً لله “جلَّ شأنه”.
شهيد المسؤولية وشهيد المظلومية
مفهوم الشهيد من وجهة نظر الإسلام ليس من قتل في سبيل حماية بلد أو وطن، وليس من قتل في سبيل حماية أسرة أو عائلة يدين لها بالولاء.
ونحن هنا نؤكد أن الشهيد.. هو من بذل روحه في سبيل الله، في سبيل إحقاق الحق، في سبيل إزهاق الباطل، فقتل في ميدان المواجهة.
وهو هنا يسمى أيضاَ شهيد المسؤولية، وبهذا الاسم يتضح الفرق بينه وبين شهيد المظلومية، وهو من يقتل مظلوما -من المسلمين-في غير ميدان المواجهة كضحايا القصف بالطيران للمدنيين في البيوت، هذا الاستهداف بالقتل لا يخرجهم من دائرة الشهداء، وفي نفس الوقت لا يضعهم في مرتبة من قدم نفسه ثمنا لموقف مسؤول آمن به، وخرج مقاتلا يَـقْـتُـل ويُـقْـتَـل في سبيل الله، وهو يقوم بهذا الموقف المسؤول.
الشهادة بين حجم العطاء وفضل الجزاء
لا يوجد مجتمع على وجه الأرض لا يقدس التضحيات، إنما تختلف المجتمعات في طريقة تقديسها للتضحيات وخاصة تلك التضحيات التي تقدم في سبيل حماية المجتمع عموما، فعلى مر التاريخ خلدت المجتمعات البشرية بكل ألوانها الفكرية أسماء وتضحيات الأبطال فمنهم من صنعوا لهم التماثيل، ومنهم من سطروا بطولاتهم بالروايات والأساطير، ومنهم من نظموا فيهم القصائد الشعرية، ومنهم من أطقوا أسماء أبطالهم ومعاركهم على المدن وغيرها من المنشآت، و…الخ.
أما في مجتمعنا المسلم فقد كان تشريف وتعظيم الشهداء نابعا من قداسة وعظمة المبادئ التي حملوها وتحركوا بها، وقد سجل القرآن الكريم مكانة الشهيد وثوابه العظيم في آيات عدة قال تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ».
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ}(التوبة: من الآية111).
وحين ختم الله لهم بالشهادة، واصطفاهم إلى جواره، نهى عن أن يوصف الشهيد بأنه ميت، قال تعالى (وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) فالشهادة في سبيل الله أمنية المؤمنين الواعين شأنهم شأن رجل الجهاد الأول الرسول الأعظم محمـد (صلوات الله عليه وآله)، الذي قال: ((وَدَدتُ أَني قُتِلتُ فِي سَبيلِ اللهِ ثُـم عُدتُّ ثُم قُتِلتُ ثُـم عُدتُّ ألفَ مَرة)).
وبالبشارة والفرحة استقبل الإمام عليه (عليه السلام) لحظة استشهاده قائلاً: [فُزْتُ وَرَبِّ الكعبة]، والذي كان يخوض الصفوف مقاتلا للمشركين والناكثين والمارقين غير آبهٍ بالموت فكان عليه السلام يقول : [مَا أُبالي أَوقعتُ عَلى الموتِ أَمْ وَقعَ الموت عَليَّ]، ويقول عليه السلام : [والله لابنِ أَبي طَالِب آنس بالموت مِن الطِفلِ الرّضيع بثدي أُمّهِ].
فالشهادة في سبيل الله هبة واصطفاء لأهل الفضل والكرامة من أولياء الله ولها قداستها وامتيازها وهي وسام تكريم من الله لا يمنحه إلا لمن ينال هذه الرتبة العالية وهي الشهادة في سبيله كما قال سبحانه:﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾.
الدروس والعبر من تحرك الشهداء
حينما نستذكرُ شُهَـدَاءَنا الأبرارَ، فإننا نستذكرُ منهم الدروسَ والعظةَ والعبرةَ، نستذكرُ منهم المجدَ، ونستذكرُ منهم الصمودَ، ونستذكرُ منهم الإباء، ومن تلك الدروس والعبر:-
الشعور بالمسؤولية: الشهداء تحركوا من منطلق الشعور بالمسؤولية أمام الله، مستجيبين لله سبحانه وتعالى، يَعُون ويفهمون أنَّ من مسؤولياتهم الدينية أن يتحركوا ضد العدوان ضد الظلم ضد البغي ضد المجرمين والظالمين، الله سبحانه وتعالى الذي قال في كتابه الكريم {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}.
عدالة القضية: الشهداء لهم قضية عادلة، ينتمون إلى مشروع عظيم، هو القرآن الكريم والإسلام العظيم، فعدالة القضية هي أيضاً تضفي على شهادتهم القداسة.
مشروعية الموقف: مشروعية الموقف أن هؤلاء الشهداء العظماء تحركوا بشرعية قرآنية، شرعية قرآنية على قول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
الوعي بطبيعة الصراع: الشهداء هم يتحركون أيضا بوعي عن طبيعة الصراع في هذا الوجود وفي هذه الحياة.
نصرة الحق: الشهداء الأبرار تحركوا في سبيل الله وفي نصرة الحق وفي دفع البغي والعدوان، تحركوا على أساس قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}.
عظمة القيم والأخلاق: الشهيد حمل في روحيته الإباء والعزة والغيرة على الحق ولأمته المظلومة، لأن “الشِّهَـادَةُ بقدر ما تعبّرُ عن المظلومية هي أَيْضاً أجلى تعبيرٍ عن القيم وعن الأَخْـلَاق”.
الأساس الإيماني: الشهيد والمجاهد الآخر الشهيد الحي، عندما يتحرك في سبيل الله هو يتحرك على أساس من إيمانه ونيته الخالصة، ابتغاء مرضاة الله.
القيم الإيمانية: الشهيد يتحرك بالقيم الإيمانية خاضعاً لله، مطيعاً لله، مستسلماً لله، وهو كذلك يتحرك بإيمان، بصلاح، باستقامة، بطهارة، بعفة، بتحرك رشيد سليم من مساوئ الأخلاق.
الصبر والثبات: فالمجاهد يتحرك في سبيل الله سبحانه وتعالى صابراً ثابتاً يؤدي مهامه الجهادية بشكل سليم وصحيح.
العطاء بلا حدود: حيث كان التحرك تحركاً قائماً على أساس العطاءِ كل العطاءِ بدونِ حدودٍ ولا قيود.
سمو الأهداف: هؤلاء الشهداء كان همهم وكان حرصهم وكان من أهم أهدافهم في تضحيتهم في سبيل الله إقامة العدل، مواجهة الظلم، مواجهة الفساد.
ومن هنا فإن الشهداء قد وفقهم الله وتقبلهم الله عنده، تقبلهم وجعل من تضحياتهم سبباً للنصر، وسبباً للعزة، وسبباً لقوة المستضعفين.
الوفاء لأهل الوفاء
يرى البعض أن الوفاء للشهداء يتمثل في رعاية الدولة لأسرهم وذويهم رعاية مادية، وأن الوفاء للشهداء بتخليد ذكراهم وتمجيد بطولاتهم، وهنا نؤكد أن مثل هذا النوع من الرعاية والتكريم موجود عند شعوب العالم ومتوارث في كل الثقافات على تنوعها.
ولكننا هنا وفي ثقافتنا المستمدة من القرآن الكريم نؤكد أن مثل هكذا رعاية هي مسؤولية وواجب لا يقتصر على الجانب الرسمي بل يمتد إلى الجانب الشعبي والمنظمات المجتمعية، كما أنه لا ينحصر على الرعاية المادية بل يشمل الرعاية الفكرية والتربوية والاجتماعية والصحية.
القيم والمبادئ والأهداف التي قدم الشهداء أنفسهم في سبيل الله من أجلها، وضحوا من أجلها يجب أن نكون أوفياء معها.
والأهم من ذلك كله أن من وفائنا للشهداء، بل ومن مسؤوليتنا تجاههم أن نكون أوفياء مع المبادئ والقيم التي ضحوا من أجلها، فالشهداء قدموا أنفسهم في سبيل الله لأهداف عظيمة:
كي يتحقق العدل، كي يزول الظلم.
كي ينعم الناس بالعزة، كي تتحقق لأمتهم الكرامة.
كي يقوم دين الله، لأجل أن تعلو كلمة الله.
ومن الوفاء للشهداء أن يكون هناك اهتمام بالشهادة كثقافة وبالشهداء وما ينبغي علينا تجاههم :
أولا: استذكار مآثرهم وتخليدهم، ومن أهم ما نؤكِّد عليه في عملية الاستذكار للشهداء:
إنتاج ما يمكن إنتاجه من الوثائقيات على المستوى الإعلامي.
التكريم المعنوي، الذي يعزز ترسيخ مفهوم الشهادة.
النشاط الواسع في ظل هذه المناسبة، في زيارة روضات الشهداء، لما لذلك من تأثير نفسي، معنوي، إيجابي، وأثر مهم جداً على المستوى الأخلاقي والتربوي.
ثانيا: ربط الجيل الناشئ بذكراهم سواء فيما يتعلق بأبناء الشهداء وهذا مهم جدا ان يعرف عن والده وعن تضحيات والده، وعن الشهداء بشكل عام، وعن نماذج عظيمة وكان لها مواقف استثنائية وبارزة جدا.
ومن جهة أخرى من الوفاء لتلك التضحيات:-
أن نواصل، وأن نستشعر مسؤوليتنا في مواصلة المشوار.
أن نثبت على الموقف الحق.
أن نتحرك فيه بكل جدية، في كل مجالات العمل والمسؤولية.
أن نتحرك بروحية ثورية تحررية جهادية، بروحٍ مستعدةٍ للعطاء إلى أعلى المستويات، بكل جد واهتمام.
أن نحذرٍ من التقصير والتفريط.
أن نستشعر قدسية الموقف الذي نحن فيه، وأنه موقفٌ عظيم.
سنكون لشهدائنا الأبرار أوفياء كما كانوا هم أوفياء مع الله مع دينه، أوفياء مع قضيتهم العادلة، أوفياء مع أمتهم المظلومة والجريحة.
* نقلا عن : موقع أنصار الله