صنعاء مدينةٌ رابضةٌ في قلبِ التاريخ، ومضيئةٌ في صفحاتِ الجغرافيا... إنها سيدةُ المدائن، وجوهرةُ الخريطة.
هي أولُ مدينةٍ تُبنى بعد الطوفان، وأولُ حضارةٍ عربيةٍ تطلُّ برأسها من الخارطة. حين استقرت سفينةُ نوح في أعالي جبال نِهْم، قَدِمَ سامُ بن نوح لبناءِ المدينة، فسُمِّيت صنعاءُ «مدينة سام». وفي كتابه «صفة جزيرة العرب» يشيرُ بديعُ الزمانِ أبو الحسن الهمداني إلى أنَّ المدينة أُسِّست على يدِ سام بن نوح.
حين تتجوَّل في حاراتها العتيقة تكادُ تسمعُ تسابيحَ الأجدادِ محفوظةً في ذاكرةِ الآجُر، وتكادُ ترى التاريخَ يمدُّ يدَه من النوافذِ والجدرانِ ليصافحك.
من مناظرها ومفارجها ترى التاريخَ مسنداً ظهرَه على سورِها، ينسجُ حكايةً طويلة، قوامُها الإنسانيةُ والفنُّ والتراثُ والمحبة والترابط الذي يجعل البيوتَ كلها تبدو بيتاً واحداً، والمدينةَ كلَّها تبدو كأنها أسرةٌ واحدة.
لصنعاءَ سبعةُ أبواب، وللجنةِ أيضاً سبعةُ أبواب. كلُّ بابٍ يوصلُكَ إلى دهشةٍ لم تكن تتوقعها، كأنكَ عبرتَ آلةَ الزمن ودخلتَ التاريخَ من كلِّ أبوابه.
لستَ مضطراً لتغييرِ لهجتكَ حين تدخل من أحدِ أبوابها؛ فصنعاءُ هي المدينةُ التي لا تسألكَ من أين أنت، أو من أين جئت؛ فقد عرفَتَ هذه المدينةُ التعايشَ منذ آلافِ السنين كواحدٍ من مبادئها.
في العامِ 1760 أمر ملكُ الدنمارك، فردريك الخامس، باختيار مجموعةٍ من النخبةِ للقيامِ برحلةٍ استكشافيةٍ إلى اليمنِ السعيد، فقد كانوا يقرؤون عن اليمن، التي كان اسمُها في الخريطة «العربية السعيدة»، ويستغربون من إطلاقِ صفةِ السعادةِ على هذا البلدِ، الذي بدا في كتبِ التاريخِ التي كانوا يقرؤونها عنه كأنه أسطورة، فجاؤوا إلى صنعاءَ ليتأكدوا مما قرؤوه عنها، فنسوا أسماءَهم وأطلقوا لِحاهم، كما أطلقوا على أنفسهِم أسماء عربية، وأنستهم الحفاوةُ اليمنيةُ ما لاقوه من المشاقِّ في رحلتهم. وحين عاد كارستن نيبور إلى الدنمارك كتب مذكراته في هذه الرحلة، وقد تضمَّنها كتابٌ عنوانه «من كوبنهاجن إلى صنعاء».
«صنعاء المحروسة». هكذا كانوا يسمونها، فقد كان في قلوبِ ساكنيها من الحبِّ ما يكفي لأن توْرقَ جدرانُها وتتفجرَ أحجارُها ماءً وعطراً، وتمتلئُ سماؤها فراشاتٍ ملونة.
الكثيرُ من زوارِ صنعاءَ وسُيَّاحِها وعشاقِها كتبوا عن دهشةِ فنِّها المعماريِّ المتفرِّد، وعن مشربياتها وأبوابها وقمرياتها وأبوابها الخشبية... لكنَّ ما لا يعرفه الكثيرون أن سكانَ صنعاء بلغَ بهم الذوقُ إلى حدِّ أن يضعوا على أبوابِ بيوتهم مقبَضين حديديَّيْن، أحدُهما كبيرٌ وله صوتٌ خشن، ويستخدمه الرجال لطرق الباب، بينما المقبضُ الآخرُ صغيرٌ وصوته ناعم، وتستخدمُه النساء، لكي يعرفَ أهلُ البيتِ إن كان الطارقُ رجلاً أو امرأة. فالاهتمامُ بالتفاصيلِ الصغيرةِ لا يغيبُ عن ذوي القلوبِ الجميلة.
لصنعاءَ مساجدُ عتيقة، أشهرُها الجامعُ الكبير، الذي تم بناؤه قبل أكثرِ من ألفٍ وأربعمائةٍ وثلاثين سنة، وما يزال معموراً وعامراً بالقلوبِ المعلَّقةِ به، وبأصالتِه ومخطوطاتِه التي تتجاوزُ أربعةَ آلاف مخطوطة نفيسة. هو أولُ مسجد تم بناؤه في اليمن، وثالثُ مسجدٍ أقيم في الإسلام، بعد مسجدِ قباء والمسجدِ النبويِّ في المدينةِ المنورة.
ترى التاريخَ ينطقُ من جدرانِ هذا الجامع، ويتجسَّدُ بين كلِّ عمودٍ وعمود. للجامعِ الكبيرِ اثنا عشرَ باباً، كلُّها تؤدي إلى الله.
سورُ صنعاءَ القديمة يبدو كأنَّ التاريخَ خطَّه بإصبعه ليحصرَ الحضارةَ كلَّها داخلِ هذا السور، فقد كانت صنعاءُ حاضرةً ومتحضِّرة، في حين كانت بقيةُ الحضاراتِ مجردَ فكرةٍ في خاطرِ الغيب.
هذا السورُ جعل كل السكان بداخله كأنهم أسرة واحدة، بل هم كذلك. فبيوت صنعاء القديمة متلاصقةٌ في حميميةٍ سرمدية، وتكاد سطوحها تكون سطحاً واحداً. ورغم أن فكرة الانعزال وبناء الأسوار العالية طرأت في اليمن منذ حوالى عقدين من الزمن، إلا أن صنعاء القديمة قد بُنيت بهذا النمط المعماري لكي تبقى مكشوفةً كالشمس، فالجمال لا يليق به أن يكون محجوباً خلف الأسوار.
تصميمُ بيوت صنعاء وتلاصُقها له بُعدٌ آخر، لا علاقة له بضيق مساحة الأرض التي بُنيت عليها البيوت؛ لأنها لم تكن ضيقة؛ لكنها بنيت بهذا الشكل المتلاصق لكي تبدو متماسكة كبُنيانٍ مرصوص، كلُّ بيتٍ يسندُ الآخر، كي لا يسقطَ واحدٌ منها، وكي تبقى منتظمة كعِقدٍ أسطوري، وهذا ينعكسُ على اتساعِ قلوبِ سكانِ هذه البيوتِ وتقبُّلهم للآخر دون وضعِ أيِّ مسافةٍ بينهم وبين من يعيشُ إلى جوارهم، ولن تجدَ هذه الحميميةَ في أيِّ مدينةٍ عربية.
تم إدراجُ صنعاءَ القديمة على قائمة التراث العالمي في العام 1986، كواحدةٍ من أهمِّ المدنِ التاريخيةِ والحضاريةِ الغنيةِ بتراثها وفنونها. وما صنعاءُ إلا واحدةٌ من مدنِ اليمنِ التي تبدو جميعها كأنها متحفٌ مفتوح.
وفي 11 أيار/ مايو 2015 أفادت منظمة اليونيسكو بأن مبانيَ تاريخيةً مهمةً في مدينة صنعاء القديمة مصنَّفةً ضمن مواقعِ التراث العالمي تعرضت لأضرارٍ جسيمة، بعد أن أصابت صواريخُ تحالفِ الحربِ على اليمن «حيَّ القاسمي» في صنعاء القديمة، وأصابت بعضَ المنازل التي شُيدت قبل القرنِ الحادي عشر. وفي الثاني من تموز/ يوليو 2015 أضافت اليونسكو مدينةَ صنعاء القديمة إلى قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر. لكن صنعاء تمرض ولا تموت، كعادتها منذ الأزل.
طوال آلاف السنين لم يشوِّه صنعاء شيء سوى صواريخ تحالف الحرب على اليمن، في محاولة بائسة من دول طارئة لطمس حضارة عمرها آلاف السنين، محاولة تكشفُ حقدَ الصحراءِ على الحضارة.
كالمشمشِ ماتت واقفةً
لتعدَّ الميلادَ الأخضر
تندى وتجفُّ لكي تندى
وترفُّ ترفُّ لكي تصفَر
وتموتُ بيومٍ مشهورٍ
كي تولدَ في يومٍ أشهَر
ترمي أوراقاً ميتةً
وتلوِّحُ بالورقِ الأنضَر
وتظلُّ تموتُ لكي تحيا
وتموتُ لكي تحيا أكثر.
هكذا تحدثَ الشاعرُ عبدالله البردوني عن صنعاء، وهكذا هي صنعاء، شأنُها الخلودُ كشأنِ سائرِ المدنِ العريقةِ والتاريخية.
البردوني حملَ اليمنَ في قلبه، وحملَ صنعاءَ في مآقي عينيه فأبصرَ بها، إذ لا أحدَ استطاعَ رؤيةَ الوجوهِ الدخانيةِ في مرايا الليلِ، سواه.
سكنته صنعاءُ إلى حدّ التوحُّد، فحين خرج منها لبضعةِ أسابيع قال:
كنتُ فيها، ومُذ تغيَّبت ُعنها
سكَنَتني من أرضِها كلُّ بقعة.
إنه التوحُّد، بل هو الحلولُ، الذي جعلَ صنعاءَ ترافقَه وتأكلَ وتشربَ معه. كان يتحدثُ مع صنعاءَ في أحدِ المطاعمِ الروسية في العاصمة موسكو، ففوجئ النادلُ من طلبه الغريب:
طلبتُ فطورَ اثنين، قالوا بأنني
وحيدٌ، فقلتُ اثنين؛ إن معي صنعا.
لن نستطيعَ ملاحقةَ شغفِ الشعراءِ في قصائدِهم التي كتبوها عن صنعاء، ولا إدراكَ ما كتبه المؤرخون عن طيبِ هوائها، ونقاءِ أهلها، وعظمةِ فنونها، وجمال معمارها، وحلم الأوائل بشدِّ الرحالِ إليها وهم يرددون:
«لا بد من صنعا وإن طال السفر».
شعراءُ وأدباءُ وفنانون جاؤوا من دولٍ عديدةٍ وبعيدة. سكنوا صنعاءَ عشقاً وحباً، فسكنتهم مدى الحياة. نسوا جوازات سفرهم وأماكن ميلادهم، ونسوا لغاتهم الأصلية بعد أن عشقوا التحدثَ بلهجة أهل صنعاء.
سكنها الشاعرُ السوريّ سليمان العيسى، وبقي فيها أكثر من ثلاثة عقود، وكتب لها ولليمن مجلداتٍ كثيرةً من الشعر، فقد أفرد العيسى لليمن عدة دواوين شعرية، منها «الثمالات»، «ديوان اليمن»، «يمانيات»، «المهد»، «اليمن في شعري»، «أنفاس اليمن»، ونصوصاً كثيرة تتغنى بكلِّ مدينةٍ وقريةٍ من قرى اليمن، وقد قامت الدكتورة ملكة أبيض بترجمةِ الكثير منها إلى الفرنسية.
سكنها الفرنسي الدكتور جان لامبير أكثر من ثلاثين عاماً، وعشق كل تفاصيلها؛ فتصنعن في مأكله ومشربه ولهجته، وفتح في صنعاء القديمة المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية. هذا المركز كان يصدر مجلة «حوليات يمنية»، وهي مجلة باللغة الفرنسية تصدر سنوياً، وباللغة العربية كل سنتين.
وكان يقوم أيضاً بدور هام في دعم التراث اليمني والاهتمام به، وعلى وجه الخصوص الموسيقى اليمنية، وأطلقَ في العام 2003 حملةً للحفاظ على الموسيقي التراثية للغناء الصنعاني، بالتعاون مع اليونسكو والصندوق الاجتماعي للتنمية ووزارة الثقافة ومركز التراث الموسيقي، وتكللت هذه الحملة بالنجاح، وذلك بإدراج الموسيقى الصنعانية في قائمة التراث العالمي الشفهي لدى منظمة اليونسكو.
الدكتور جان لامبير عالم شهير في الانثروبولوجيا وموسيقى الأعراق، يهتم بالموسيقى اليمنية التقليدية بوجه خاص، وكانت أطروحته للدكتوراه عن هذه الموسيقى.
حين تسمع جان لامبير يتحدث باللهجة الصنعانية تظنه من سكان صنعاء الأوائل. ولعشقه لصنعاء وفنها غنى لامبير أغانيَ صنعانيةً عديدةً بآلة القنبوس، التي يسميها أهل صنعاء «الطُّربي»، هذه الآلةُ التي كادت تندثر فأعادها جان لامبير إلى الواجهة. وألف كتاباً عن الفن الصنعاني، واصفاً هذا الفن بأنه طب النفوس.
«مثلكِ لنا التاريخُ فكنتِ مليكةَ الزمان، ومثلكِ لنا العلمُ فكنتِ يوماً ربة العرفان، ومثلتكِ لنا الأساطيرُ فكنتِ سيدة الإنس والجان.
تغلغلنا في سراديبك، ووقفنا عند كنوزك، وطفنا حول قصورك، وسمعنا الشعراء ينشدون الشعر في دورك... واليوم ومطيتنا غير الخيال نشاهد ما يثبت المقال ويحقق الأمل. هذه بيوتكِ العالية وقصوركِ الشاهقة، فما كذب التاريخ».
هكذا تحدث المؤرخ والكاتب اللبناني أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» حين زار صنعاء؛ فقد كانت دهشته عاليةً بقدرِ علوِّ صنعاء في صفحات التاريخ.
صنعاء ليست مجرد عاصمة لوطنٍ فقط. إنها عاصمة الروح. كما يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح: «مكة عاصمة القرآن، باريس عاصمة الفن، لندن عاصمة الاقتصاد، واشنطن عاصمة القوة، القاهرة عاصمة التاريخ، بغداد عاصمة الشعر، دمشق عاصمة الورد، وصنعاء عاصمة الروح».
يعود الدكتور المقالح فيدوزِنُ أشجانَه تجاهَ عاصمة الروح مرة أخرى:
هي عاصمةُ الروحِ
مغمورةً بالضُّحى والتعاويذِ
تومضُ أشجارُ ذاكرتي حين أدخُلها
وأراها بأطمارِها تتوهّجُ عاريةً
تحتَ جمرِ الظهيرة...
أذكُرها...
كنتُ طفلاً بعينين ذاهلتين
رأيتُ مفاتنَها
وبقايا «البُرُود»
وتابعتُ فيضَ خطاها
شربتُ الشذى
واستحمَّتْ جفوني بماءِ الظلالِ
وشاهَدَ قلبي ملائكةً يرسمونَ على الأفقِ
أوديةً وقصوراً
وأروقةً،
كانت العينُ تسمعُ أصواتَ فُرشاتهم
وترى الأذنُ كيف تصيرُ السحاباتُ
لوناً
وتغدو الحقيقةُ حلماً...
على درجِ الضوءِ أدركتُ أنّي بصنعاء
أنّ النجومَ إذا ما أتى الليلُ
ترقصُ في غرفِ النومِ
والقمر المتوهّج يضحك من شرفات البيوت.
إنها صنعاء، موغلةٌ في ذاكرةِ التاريخ، ومتوهجةٌ في صفحات الجغرافيا.
ما مثل صنعا اليمن
كلا ولا أهلها
صنعا حوت كل فن
يا سعد من حلها (بصوت محمد سعد عبدالله)
أن تتحدث عن صنعاء، فذلك ليس بالأمر الهيِّن، فصنعاء بكل كنوزها ومعمارها وحوانيتها، ومساجدها، وحميميتها، وأسواقها، ومشغولاتها، ونفائسها، وشعرائها، وأغانيها، ونقوشها، وعراقتها... تحتاج ذاكرة كبيرة لتستوعب هذه الشهقةَ التي لا يؤطرها تقويمٌ ولا يحيط بتفاصيلها تاريخ.
وكما يقال:
صنعا اليمن ثانية.
* نقلا عن : لا ميديا