ما يجري في جمهورية السودان صراع يختزل أزمة الهوية والانتماء والوعي، ويختزل سلوكيات (نرجسية وانتهازية) تعنون سلوكيات ومواقف نخب عربية برزت إثر انهيار قيم وأخلاقيات وطنية وقومية ودينية، لتحل محلها قيم الاستهلاك العابر المجسدة لتحولات حضارية قامت وترسخت على أسس ومفاهيم مادية مجردة من كل المشاعر الإنسانية..!!
في تداعيات وأحداث (السودان) لا نشهد أزمة قطر عربي بل نرى أزمة أمة، زرع أعداؤها في جغرافيتها بذور الصراعات، للحد من تطورها واستقرارها ولكي وجعلها ساحة للتناحرات داخل مجتمعاتها وفي محيطها.
بيد أن المتابع للتغطية الإعلامية لأحداث السودان يجد نفسه أمام سيمفونية جنائزية تعزف بدماء السودانيين أنغام مصالح متعددة موزعة بين الإقليمي والدولي، يتسابق فيها القريب والبعيد، الأخ والصديق والعدو، وبكل سلاسة ودون اكتراث لضحايا الصراع الذين يدفعون ثمن انتهازية ونرجسية نخبهم الذين يضعون مصالحهم في سلم أولياتهم قبل مصالح الوطن والشعب..!
ألغام التعدد العرقي تكاد تكون طاغية على الجغرافية السودانية، هذا البلد العربي الذي كان يمكن أن يكون وبجدارة (سلة الغذاء العربي) يعيش حالة عدم استقرار منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، بعد حالة استقرار تمتع به لسنوات بعد الاستقلال، الذي حصل عليه هذا البلد، وهو الاستقلال الذي ما برح أعداء المرحلة (الناصرية) والمد القومي يلقون باللوم فيه على الزعيم جمال عبد الناصر الذي قاد ثورته ضد نظام ملكي كان يلقب ملكه بملك مصر والسودان، وحين قامت ثورة يوليو 1952 م أصر عبد الناصر على حق الشعب العربي في السودان بتقرير مصيره مؤمنا أن الوحدة لا تقوم وفق قوانين ومتغيرات الأمر الواقع..
كان يمكن لهذا البلد أن يكون فعلا (سلة الغذاء العربي) وقد يكون منافساً لأوكرانيا وأستراليا في زراعة وتصدير القمح لو أن العرب امتلكوا الشجاعة للاستثمار في هذا البلد، ولم يخشوا غضب أمريكا والغرب..؟!
كان يمكن أن يتم نزع الألغام العرقية من على خارطة هذه الدولة وذاكرة مواطنيها لو أوجد النظام السياسي قدرا من العدالة الاجتماعية، وسخروا قدراتهم للتنمية أو مضوا على ذات الوتيرة الوطنية التي برزت في مرحلة ما بعد الاستقلال، لكن للأسف تعرضت هذه البلاد لسلسلة مؤامرات بدت من جنوبه حيث الغالبية المسيحية التي وقعت في فخ( منظمة الكنائس العالمية) أو هكذا اسمها.. مستغلة انشغال المركز بقضايا أبعدت اهتمامه عن قضايا مواطني الجنوب، وبدلا من تدارك هذه الأخطاء راح نظام (النميري) في آخر عهده يقتفي إثر نظام السادات في الاستحواذ على لقب (الرئيس المؤمن) فبرزت الجماعة الإسلامية مقدمة النميري بصورة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، ثم تلا هذا ظاهرة (أسلمة التشريعات) في مجتمع متعدد الأديان والعرقيات..؟!
هناء تبخرت الهوية الوطنية وبرزت النزعات العرقية باحثة عن ذاتها ومكرسة لهويتها الدينية والعرقية فكانت بداية الانهيار..؟!
كان (جورج جرنج) ضابطا في الجيش السوداني حين كلفه النظام الذهاب للجنوب ومحاورة المتمردين فيه، فذهب الرجل وهاله ما يعاني أبناء جلدته فانحاز لهم ولم تكن رغبته في الانفصال وإقامة دولة بل كان يبحث عن حكم ذاتي في ظل وحدة الجغرافية السودانية، ولأنه كان ضد الانفصال وإقامة دولة مستقلة تم اغتياله بأوامر من الخارج وفيهم مجلس الكنائس العالمي..؟!
وهكذا تدحرجت الأزمة الداخلية وبلغت ذروتها في عهد (البشير) والإخوان..!
يتميز السودان بموقع جيوسياسي مهم وبثروات طبيعية وأراضٍ خصبة، ولهذا وضع في دائرة الاستهداف تزامنا مع طمس هويته وانتمائه العربي والقومي والحضاري وصولا إلى بروز نخب متسلطة على شاكلة (البرهان) و (دقلو) الذين يعصفون اليوم بالشعب السوداني دفاعا عن مشاريعهم ومصالحهم الخاصة ولا يهمهم إن تحققت مشاريعهم ومصالحهم على انقاض الشعب السوداني وجثث مواطنيه..؟!
شخصان انتهازيان نرجسيان يخوضان معتركهم الوجودية رافضين فكرة إعادة الخيار للشعب، بل جعلوا أنفسهم أوصياء عليه، في معركة يصعب على أي من طرفيها التراجع عن حسمها، إذ يرى كل طرف أن تراجعه عن هذه المعركة هي نهايته وبالتالي هما في حالة (انتحار) مصيري ومعهما ينحران السودان الأرض والإنسان والمكانة والدور..؟!
معركة الخاسر فيها هو السودان الإنسان والجغرافية، وفيها انتصار (البرهان) وخسارة (دقلو) تعني ميلاد كيان انفصال جديد عنوانه (دارفور) حيث مصدر قوة دقلو وحاضنته..؟!
وهذا ما يثير إعجاب أطراف خارجية وتعمل على إيصال الأطراف السودانية إليه..؟!