تتبنى واشنطن مع العالم دبلوماسية الكذب والخداع وتسخر لهذه الدبلوماسية ماكينة إعلامية جبارة تعمل على مدار الساعة دون توقف يعمل فيها آلاف من الإعلاميين والمفكرين والمثقفين والفلاسفة، ينتمون لجميع شعوب العالم تقريبا ويتحدثون بكل اللغات الإنسانية الحية، مهمتهم تنحصر في تسويق أكاذيب أمريكا ومنحها صبغة المصداقية وتظهر الخداع وكأنها حقائق، نشاط يطال مختلف الجوانب الحياتية والحضارية والقضايا الدولية التي تعمل أمريكا على تطويعها خدمة لمصالحها الجيوسياسية ولمصالح الحليف الوحيد والأوحد لها على خارطة الكون وهو (الكيان الصهيوني)،هذا الكيان هو الحليف الوحيد لأمريكا رغم حلفائها الكثر على خارطة الكون غير أنها لا ترى فيهم أكثر من حلفاء تكتيكيين تسخرهم لخدمة كيانها اللقيط في المنطقة و ليس لأحدهم مكانة في حساباتها واهتمامها الاستراتيجي كما هو الحال مع (الكيان الصهيوني) الذي يستمد أهميته في استراتيجية أمريكا من أهمية المنطقة التي زرع فيها هذا الكيان وهي الوطن العربي الذي يحتل موقعا استراتيجيا على الجغرافية الكونية وإضافة إلى ما يمتلك الوطن العربي من ثروات ومواد خام، فإنه أيضا يتحكم بالممرات البحرية وبطرق التجارة الدولية، إضافة إلا ما لدى هذا النطاق الجغرافي من مخزون استراتيجي روحي، حيث يعد مهبط الديانات السماوية وهو مصدر الطاقات الروحية وبالتالي فإن وجود هذه المقومات المادية والمعنوية والروحية والتراكم الحضاري الروحي، كل هذه المقومات كانت وراء زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي خوفا من امتلاك هذا النطاق الجغرافي لسيادته وقراره والتحكم بثرواته، لأن هذا إن حدث فإنه كفيل بجعل الوطن العربي يتحكم بالعالم وبقدراته ومصيره وهذا ما ادركته القوى الاستعمارية مع بدء انطلاق فجر اليقظة القومية بعد تراجع دولة الخلافة العثمانية في بداية القرن المنصرم والذي برزت على إثر هذا التراجع المخططات الاستعمارية بدءا من اتفاق دول أوروبا في مطلع القرن الماضي، برعاية بريطانيا على إيقاف الصراعات البينية فيما بينها، والتفكير بمصادر الطاقة والمواد الخام التي تحتاجها دول الغرب وأمريكا والتي لا توجد في أوروبا، فيما الموجود منها في أمريكا قد لا يفي باحتياجات المصانع الأوروبية _الأمريكية.
وكان لابد من زراعة الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي بعد أن تعمدت العواصم الاستعمارية على قطع الطريق أمام فكرة قيام الدولة العربية الواحدة التي كان الحديث عنها يتبلور لتحل محل الدولة العثمانية، ولكي تفشل فكرة أو مشروع الدولة العربية الواحدة عملت العواصم الاستعمارية وفي المقدمة منها بريطانيا على تأسيس أنظمة وظيفية في المنطقة وتنصيب أسر قبلية وعشائرية ارتبطت بالعواصم الاستعمارية، وحدث هذا قبل الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني الذي تم الإعلان عنه بعد التأكد من دور هذه الأنظمة الوظيفية في القبول به والعمل على تمكينه، وكانت أمريكا التي قدمت نفسها كدولة الحرية والديمقراطية والمؤمنة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وكان هذا الإيمان بمثابة سلاح تدميري بالنسبة للأمة العربية التي وجدت نفسها ممزقة ومقسمة إلى كانتونات (قُطرية) ودويلات عائلية صممها الاستعمار وفقا لاتفاقيات (سايكس _بيكو) التي قطعت طريق الوحدة العربية وسقطت فكرة الدولة العربية الواحدة، وقد استثنت تلك الاتفاقية جغرافية الحجاز من التقسيم لثلاث دويلات بمنحها لآل سعود، مقابل التزام هذا النظام بحماية الكيان والقبول به _الذي عملت على إيجاده، برعاية بريطانية _أمريكية، ليكون بمثابة قاعدة عسكرية استعمارية متقدمة في الوطن العربي، بعد أن وجدت الدول الاستعمارية أن بقاءها كقوى استعمارية بصورة مباشرة في الوطن العربي فعل من مستحيل خاصة بعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا الاتحادية عام 1917م..!
كان وقع الثورة الاشتراكية الروسية قد أحدث ارتباكا في حسابات الدول الاستعمارية، تماما كما أحدثت الثورة الإيرانية عام 1979م ذات الارتباك لدى أنظمة الوطن العربي التي تبنت الفكرة الأمريكية _الصهيونية _الاستعمارية من الثورة الإسلامية الإيرانية واعتبارها مصدر خطر لأنظمة دول المنطقة، تماما كما اعتبرت العواصم الاستعمارية ثورة أكتوبر الاشتراكية مصدر خطر لنفوذها ولمصالحها الاستراتيجية ونفوذها الجيوسياسي..!
اعتمدت أمريكا على دبلوماسية الكذب والخداع ليس مع أعدائها والمناهضين لسياستها الاستعمارية في المنطقة، بل حتى مع حلفائها المفترضين من أنظمة المنطقة الموالية لها، ولم تَصْدُق أمريكا يوما مع حلفائها في المنطقة والعالم، بقدر وفائها وإخلاصها ومصداقيتها مع حليفها الوحيد على خارطة الكون وهو (الكيان الصهيوني) الذي تحرص أمريكا على تفوقه وديمومته وترسيخ وجوده في جغرافية المنطقة وهي مستعدة لتخوض حربا كونية دفاعا عنه وعن بقائه وعن جرائمه لأنه مصدر استقرار مصالحها التي تنهبها من دول وشعوب المنطقة، بدليل موقفها من جرائمه غير المسبوقة بحق الشعب العربي الفلسطيني..!
لقد مكن هذا الكيان أمريكا من نهب ثروات العرب والأفارقة والأسيويين، ومكنها من إحكام قبضتها على طرق التجارة الدولية والحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في منطقة جغرافية مهمة ومحورية، منطقة من يسيطر عليها وعلى قدراتها يسيطر على العالم بأسره..!
وفي كل هذا اعتمدت أمريكا على دبلوماسية الكذب والغدر والخداع وعلى هيمنة القوة ووحشيتها إن تطلب الأمر ذلك..!!
كانت وراء تفجر الحرب العراقية _الإيرانية، وقبلها تفجر الحرب الأفغانية ودفع العرب والمسلمين بكل قدراتهم في تلك الحرب باسم الدفاع عن الإسلام ومواجهة النفوذ الشيوعي وهذا ما سبق أن فشلت به من خلال (حلف بغداد) الذي أسقطه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر _رحمه الله _ والملاحظ أن أمريكا التي وقفت وراء حرب الدفاع عن الإسلام في أفغانستان هي ذاتها التي فجرت الحرب ضد الثورة الإسلامية في إيران..!
وهي ذاتها التي اتخذت من أحداث 11 سبتمبر عام 2001م التي كانت من صناعتها ومن تخطيط أجهزتها الاستخبارية، واتخذت منها ذريعة لاستباحة سيادة دول العالمين العربي والإسلامي باسم (مكافحة الإرهاب)..!
متخلية عن حلفاء الأمس في أفغانستان من الجماعات الإسلامية التي أسستهم ورعتهم وقدمت لهم كل أشكال الدعم وشجعت دول وأنظمة العالمين العربي والإسلامي على دعمهم وتسهيل مهمتهم الجهادية في أفغانستان، وهي من أطلقت عليهم مسمى (المقاتلين من أجل الحرية)، ثم انقلبت عليهم بعد انقضاء مهمتهم واتخذت منهم أعداء بعد أن سقط عدوها الاستراتيجي الاتحاد السوفييتي، ثم راحت تطاردهم عبر قارات العالم، قبل أن تجد نفسها أمام تقدم ( الصين) المضطرد، ثم أمام إعادة ( روسيا الاتحادية) دورها ونمو وتطور قدراتها وعودة نفوذها الجيوسياسي، فاستعادت أمريكا علاقتها بالجماعات الإسلامية التي هي مجرد (جماعات للإيجار) أعداءها دائما هم خصوم أمريكا والكيان الصهيوني، إذ لم نر من هذه الجماعات موقفاً من أمريكا والكيان الصهيوني والدول الغربية بدليل موقف هذه الجماعات من حرب الإبادة التي تشنها أمريكا والكيان الصهيوني في غزة، فيما الجماعات الإسلامية بكل مسمياتها لم تحرك ساكنا بل ذهبت للقيام بتفجيرات في أراضي جمهوريات روسيا الاتحادية والكثير من منتسبي هذه الجماعات نقلتهم أمريكا من أكثر من بلد إلى أوكرانيا ليقاتلوا في صفوف الجيش الأوكراني كمرتزقة..؟!
لكن تبقى معركة (طوفان الأقصى) أيقونة لتحول جيوسياسي تداعياته كفيلة بأن تعصف بحسابات أمريكا وأذنابها، وهذا ما سوف تكشف عنه تداعيات الزمن القادم.
*نقلا عن :الثورة نت