من الغرائبِ اللاأخلاقية، ومن علاماتِ الفُجُورِ في الخصومة، مساومة قوى العدوان وأدواته في اليمن على ورقة المرتبات، فالمرتبات قضية إنسانية تمس حياة كُـلّ الناس، وليس جماعة سياسية بعينها، أَو مكون سياسي بعينه، هذا الاشتغال الممقوت والمفضوح ليس أمراً عفوياً أَو خارج السيطرة أَو القدرة، بل هو جزء من العدوان، فالكل يتذكر أن رحى الحرب كانت تدور، وكانت صنعاء تدفع مرتبات الناس في عموم اليمن دون تفرقة بين منطقة أَو أُخرى كاستحقاق إنساني دون تمييز، وحين استخدم العدوان الورقة الاقتصادية كجزء من حربه وعدوانه، واشتغل على نقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن مع تعهدهم بدفع المرتبات، وحين تم لهم ما شاءوا توقف دفع المرتبات في المناطق الواقعة تحت سيطرة المجلس السياسي وحكومة الإنقاذ بصنعاء، مع استمرار تدفق المرتبات للمناطق الواقعة تحت سيطرة الاحتلال السعوديّ الإماراتي، هذا التمييز في حَــدّ ذاته يرفع من القيمة الأخلاقية لصنعاء في مقابل السقوط القيمي للمرتزِقة، فصنعاء حين كان البنك تحت إدارتها لم تتأخر شهراً واحداً عن تسليم المستحقات، وحين نقلوا البنك كشف خصوم صنعاء وأعدائها عن سوءتهم وتمايز الناس، بين فئة تنتصر للوطن وتبذل كُـلّ غالٍ ورخيص؛ مِن أجل عزته وكرامته وصون كامل السيادة على أراضيه، وبين فئة باعت الكرامة الوطنية، وأباحت الأرض والعرض للمحتلّ، ولعل الذاكرة لا تخونُ الناسَ إذَا عادت إلى السنين الخوالي حين كان الإعلام يتداول قصص السجون وانتهاك الأعراض في المحافظات المحتلّة.
من يسيطر على مصادر الطاقة، ويتحكم في موارد الدولة اليوم هم المرتزِقة، ومن ورائهم دول العدوان، وكلّ الموارد تذهب إلى فنادق العالم، حَيثُ يقيم المرتزِقة، ويتم دفع مرتبات الكثير من قيادات الصف الأول للمرتزِقة بالعملة الصعبة، في حين يظن أُولئك المرتزِقة على عموم الناس من العاملين في مؤسّسات الدولة بحقوقهم المستحقة، بل وأصبحت المرتبات ورقة تجري المساومة عليها اليوم، وَأَيْـضاً يتم استغلالها بفجور واضح ضد صنعاء، وكأن صنعاء هي من تمنع وصولها إلى المستحقين لها، في حين تعمل دول العدوان وحكومة المرتزِقة على منع هذا الاستحقاق وتجهد في ذلك، وفي ظني لو كان حدث عكس ذلك لرأيت الأبواق كلها تعلو حتى تملأ الفضاء ضجيجاً؛ لكنْ لأَنَّ صنعاء هي من تحاصر، وهي من تجوع، وهي من يمنع عنها المرتبات فمثل ذلك لا يثير حفيظة أحد من أُولئك الناشطين والناشطات، ولا حفيظة المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، ولا حتى الإعلام الذي يملأ أذاننا صراخاً وعويلاً على قضايا لا قيمة لها من الجانب الإنساني، ومثل تلك المفارقات يمكن لأي فرد ملاحظتها بمُجَـرّد أن يتابع إعلام المرتزِقة وإعلام العدوان ومن شايعهم أَو سار مسارهم أَو سلك دربهم.
صنعاء وشعب صنعاء وكلّ القوى الوطنية المناهضة للعدوان بشر يستحقون الحياة كما يستحقها من يستغلون ظروف الوطن، والمرتبات استحقاق يجب أن يُنَأَى عن الصراع السياسي؛ فهي في الأول والأخير ضرورة إنسانية، ومن الأخلاق الرفيعة أن يبتعد الكل عن الجوانب الإنسانية كما ابتعدت صنعاء حين كان البنك تحت سيطرتها، وقد ضربت صنعاء للناس مثلاً أخلاقياً رفيعاً لم يستوعبوه حين نقلوا البنك وفرضوا سيطرتهم عليه فسقطوا وتبين الناس الخبيث من الطيب.
الملف الإنساني في اليمن كان جزءاً من العدوان والحرب، ولم يحقّق لمن استخدمه سوى الخزي والعار، فالشارع اليمني فهم اللعبة، وكتم غيضه في صدره وقاوم العدوان بكل جبروت وبأس شديد، وقد علمت دول العدوان ذلك منهم، وهم أشد وأصلف إذَا استمر المرتزِقة ودول العدوان على الاستمرار في الغي، ومجانبة طرق الرشاد، فحياة الناس وكرامتهم ليست لعبة في يد عدو شانئ ولن تكون، ولذلك لن يسير الركب وفق أهواء المرتزِقة، ولا وفق أهواء قوى العدوان، فالشارع الذي وهب الدم الغالي؛ مِن أجل كرامته وعزته وسيادته على كامل الأرض لن يفرط في كُـلّ المكتسبات المعنوية في مقابل دراهم معدودات، بل -كما هي عادته- يتنزع الحق انتزاعاً وهو موفور الكرامة.
اليمن اليوم تدرك حجم المؤامرة وقد وصل بها الوعي إلى مراحل متقدمة، ولذلك لن تنطلي عليها اللعبة التي تسعى إلى شق الصف، وتنمية الصراع الداخلي، وتفكيك الوحدة الوطنية، فالتجارب الاجتماعية تركت بعداً وظلالاً ثقافيًّا ونفسياً يجعل مثل ذلك الاستهداف من الصعوبة بالمكان الذي لا يمكن أن يتخيله العدوّ.
ولذلك من المستحسن للمرتزِقة ودول العدوان -حفظاً لماء الوجه- أن يبادروا إلى إطلاق مرتبات الناس ويبتعدوا عن الاشتغال في مربع الملف الإنساني، فاستغلال الملف الإنساني لن يحقّق نصراً على صنعاء بل ستكون نتائجه عكسية، ويكفي المرتزِقة ودول العدوان ما قد لحقهم من عار ومن هزائم ومن سقوط قيمي وأخلاقي وكثير منهم يتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعه.. فهل آن لهم أن يتعظوا من تجارب السنين.. نتمنى لهم ذلك؟