بعدَ سنوات من التيهِ والضياعِ الفلسطيني، وضعفِ القيمة الاستراتيجية للفعل الجهادي النضالي، تراجعت فيها قوى وحركاتٌ كانت بارزة، وأضَعُفَت أُخرى من تأثيرها وقدراتها في جمع الشعب الفلسطيني نحو استراتيجية نضالية موحدة، وأفرزت مجموعة من الانقسامات البينية بين مكونات الشعب الفلسطيني، الذي بات يعيشُ كنتونات مجزَّأة ما بين الوجود الفلسطيني في أرض الشتات، وبين كنتون في قطاع غزة وآخر في الضفة الغربية، وُصُـولاً إلى إضعاف القيمة الوطنية وهُــوِيَّة الشعب الفلسطيني المتواجد في الأراضي المحتلّة عام 1948م، وأضحت كُـلّ منطقة لها همومُها وأولوياتُها وتعبيرُها الخاصُّ عن شكل وجدانها الفلسطيني ونضالها الوطني.
لكن وفي زمن الصحوة، ثمة معاركُ مفصليةٌ في حياة الشعب الفلسطيني، جاءت كمحطاتٍ تاريخيةٍ جدّد فيها مسارات العمل الجهادي النضالي، وعمل على تصحيح خطوات التوجّـه الوطني العام، بما يتناسب مع متطلبات التحَرّك المقاوم وحجم التحديات والأخطار، وبرزت معركة “سيف القدس”، سيفاً مسلَّطاً على الكيان المؤقت؛ دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى؛ ورفضاً لاقتحامه، وفرضت معادلات جديدة وقواعدَ اشتباك خَاصَّة؛ وتعزيزاً لذلكَ، أطلت معركة “وحدة الساحات”؛ لتخلق هي الأُخرى قواعدَ جديدةً للربط بين غزة والقدس، وأسَّست ميدانيًّا معادلةً وطنيةً ربطت بين غزة والضفة بشكلٍ عام، وترسيخاً لوعي فلسطيني جديد أعاد العلاقة مع الاحتلال إلى طبيعتها، علاقة شعب خاضع للاحتلال، ومقاومة وتَصَدٍّ وصمود، وهي ما عبَّرت عنهُ معركة “بأس الأحرار”.
ومع تعدُّدِ هذه المحطاتِ الفارقةِ في التاريخ الفلسطيني الحديث، عادت المقاومةُ الفلسطينيةُ في الـ7 من أُكتوبر عام 2023م، لترتيب أوراقها، واتخذت قرارَها لخوض معركةٍ مصيريةٍ مع كيان الاحتلال المؤقَّت، وعلى الرغم أنها حملت مسمى “طوفان الأقصى”، إلا أنها جاءت دفاعاً عن كامل الأرض الفلسطينية، وردعاً للاعتداءات الصهيونية المُستمرّة على الضفة الغربية وأهلها ومقدساتها، ورفضاً للحصار الجائر على قطاع غزة ولأكثر من 15 عاماً؛ فشكلت معركة “طوفان الأقصى” خلاصة العمل المقاوم في تلاحم الجبهات ووحدة الساحات، والتي يمكن اعتبارها نقطةَ تحوّل في المقاومة الفلسطينية بتأسيسها لمرحلة جديدة فكرياً، ولجيل جديد يؤمن بالمقاومة والفعل التحرّري.
شخصيًّا، أرى أن هذه المعركةَ عزَّزت من واقعِ المقاومةِ لإنجاز مشروعها التحريري، والأيّام القادمة ستكون أكثر إيلاماً للاحتلال وأدواته المساندة إقليميًّا ودوليًّا وأمميًّا، ففي “طوفان الأقصى” أمكن للمقاوم الفلسطيني أن يعيد الاعتبار لذاته ورسم ملامح جديدة لكينونته وهُــوِيَّته.
وبقدر ما ستؤسس هذه المعركة واقعاً فلسطينياً لمرحلة جديدة فكرياً، وجيل جديد يؤمن بالمقاومة والوحدة، فَــإنَّها ستسهم في ردع الاحتلال المؤقت، إن لم تتسبب في خلخلة بنيانه الجمعي الصهيوني، وتآكل قوة الردع والتفوق لديه؛ لترتفع فيها عواملُ التلاشي المتدحرجة في جسدِ الكيان الماضي إلى الزوال.