عندما نتحدث عن جبهات الإسناد لغزة، لا يمكن تفضيل جبهة عن الأخرى، ولكن التعصب اليمني في قلمي وقلبي وروحي وعقلي الباطن، سيفرض بطريقة لا إرادية أن تكون البداية من اليمن الذي فرض حصاراً بحرياً غير متوقع على كيان العدو «الإسرائيلي»، وجعل من موانئ فلسطين المحتلة منشآت فارغة تماماً تسكنها أشباح.
كما أن هذه الجبهة وفقاً التقارير الاقتصادية الصادرة عن العدو نفسه كبدت الصهاينة خسائر اقتصادية فادحة وتسببت بارتفاع كبير في أسعار الشحن ونقل البضائع من وإلى الكيان، وتسببت بعزوف كثير من شركات النقل العالمية عن التعاطي مع الكيان والبضائع التي يحتاجها بشكل دائم ومستمر، ما أدى إلى أزمة حقيقية في ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وأبرزها الاحتياجات اليومية الضرورية من المواد الغذائية والاحتياجات الطبية والمستلزمات اليومية للحياة.
جبهة الإسناد اليمنية بدأت مرحلتها الأولى بضربات الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومثلت هذه المرحلة إرباكاً كبيراً للعدو الذي كان يراهن أن بعد المسافة بين اليمن وفلسطين سيحول دون استمرارية هذه الجبهة، ولكنه فوجئ بإعلان المرحلة الثانية والتي اشتركت فيها القوات البحرية اليمنية إلى جانب القوة الصاروخية وسلاح الجو، وبدء الحظر البحري على السفن «الإسرائيلية»، واحتجاز السفينة «جلاكسي ليدر»، لم يكن حادثاً عادياً بالنسبة للعدو الذي استعان بواشنطن لسرعة التدخل، والتي بدورها عملت على «عسكرة» البحر الأحمر، ودخلت بتحالف مع لندن، لاستهداف الأراضي اليمنية، قبل أن تنتقل صنعاء للمرحلة الثالثة والتي وسعت خلالها الحظر البحري ليشمل السفن الصهيونية والأمريكية والبريطانية وجميع السفن التي تتجه من وإلى موانئ فلسطين المحتلة في البحرين الأحمر والعربي وصولاً إلى المحيط الهندي.
أما المرحلة الرابعة والتي تزامنت مع تصعيد العدو في «رفح» وسعت القوات المسلحة اليمنية عملياتها إلى البحر الأبيض المتوسط، مع فرض عقاب على كل شركات النقل البحري التي لازالت سفنها تقدم إمدادات للكيان مهما كانت جنسية تلك السفن أو العلم الذي ترفعه، وإلى جانب الرسائل التي وجهتها صنعاء لشركات النقل في روسيا والصين وآسيا وأوروبا، أوضح القائد أبو جبريل أن هذه العمليات ليست عدوانية وإنما إجراء إنساني يهدف إلى وقف العدوان والحصار الذي تمارسه تل أبيب وواشنطن وداعموهما ضد المدنيين الفلسطينيين، وكان عنصر المفاجأة في هذه المرحلة هو العمليات المشتركة بين القوات المسلحة اليمنية والمقاومة الإسلامية في العراق، بضرب أهداف حيوية وهامة في ميناء حيفا.
بحسب التقارير الغربية، يتكبد الصهاينة خسائر اقتصادية تُقدر بنحو أربعة مليارات دولار شهرياً، بالإضافة إلى ما يعادل عشرة ملايين دولار على الأقل خسائر يومية، وجملة من المشاكل الاقتصادية أبرزها توقف نقل البضائع البحرية مع أوروبا وآسيا، مما تسبب بارتفاع التكاليف اللوجستية، الأمر الذي دفع حكومة العدو للبحث عن طرق بديلة لتسليم البضائع، وتحمل أعباء النقل التي تتجاوز القدرة على الاستمرار لفترة أطول، وذكر تقرير نشره «معهد الشرق الأوسط» الأمريكي أن الخسائر الاقتصادية المباشرة على ميناء أم الرشراش «إيلات» الذي يتعامل بشكل رئيسي مع واردات السيارات وصادرات سماد البوتاسيوم إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ بلغت 3 مليارات دولار جراء عمليات القوات المسلحة اليمنية في البحرين الأحمر والعربي والمحيط الهندي، مشيراً إلى أن الواردات والصادرات «الإسرائيلية» تستغرق ما لا يقل عن ثلاثة أسابيع إضافية للوصول، مما يؤدي إلى زيادة تكاليف النقل من حوالي 2000 دولار إلى 2500 إلى 3000 دولار للحاوية الواحدة، بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي تجنب قناة السويس إلى المخاطرة بتهميش موانئ البحر الأبيض المتوسط وطرق التجارة، حد وصفه.
ولفت إلى أنه يرتبط بهذه التحديات خطر فرض عقوبات صامتة على الكيان، مضيفا أن المزيد والمزيد من خطوط الشحن الدولية، بما في ذلك شركة COSCO الصينية وشركة Evergreen التايوانية، تتوقف أو توقفت مؤقتًا عن نقل البضائع إلى الكيان أو قبول البضائع من الكيان، وكان الرئيس التنفيذي لميناء «إيلات» جدعون جولبر قد صرح لصحيفة «غلوبس» الاقتصادية العبرية أن الميناء مغلق بشكل كامل ولم يعد هناك أي نشاط في الميناء منذ 7 أشهر بسبب ضعف دول التحالف في البحر الأحمر.
ولأن عمليات الإسناد اليمني لم تبق حصراً على الحصار المفروض عبر البحر نفذت القوات المسلحة اليمنية عمليات صاروخية ومسيرة إلى أم الرشراش وهذا تسبب بشكل واسع في فرض واقع أمني جديد ألقى بظلاله على شركات النقل والتأمين التي فرضت رسوما إضافية على الحاويات، ووصلت الرسوم إلى نحو 65 عُشراً في المائة من قيمة السفينة، تماشياً مع تكاليف الرحلة ومدة الوصول، التي تضاعفت بالإضافة إلى مخاطر الحرب.
الأمر الذي دفع هيئة الضرائب الصهيونية إلى الإعلان أنها ستقوم بتعويض السفن التي تعرضت لأضرار نتيجة العمليات، بنسبة 100 في المائة، ولأن موانئ «إيلات» وأسدود الصهيونية مصادر دخلها من عائدات نقل البضائع بين آسيا وأوروبا، وهذا التدفق انخفض بسبب العمليات وحرمت حكومة العدو من إيرادات الترانزيت عبر الموانئ المنكوبة.
كما لا يغفل أحد عن التأثير الكبير الذي أحدثته العمليات اليمنية بسمعة البحرية الأمريكية، وقدراتها «الخارقة»، التي تحولت إلى مسخرة ومدمراتها وحاملات طائراتها النووية تتعرض للضرب المتتالي بشكل لم يحدث من قبل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إعلان القوات المسلحة اليمنية، استهداف حاملة الطائرات الأمريكية «إيزنهاور»، جنوبي البحر الأحمر، بعددٍ من الصواريخ والطائرات المسيرة، سارع مسؤولون أمريكيون للنفي، غير أن الصفعة المدوية جاءتهم من صنعاء بالتحدي لبث مقطع حديث من حاملة الطائرات «إيزنهاور» يثبت عدم استهدافها من جانب القوات المسلحة اليمنية، في المقابل نشر كابتن الحاملة إيزنهاور «تشوداه هيل» مقطع فيديو من على ظهرها في حسابه على موقع «إكس»، ليتبين لاحقا أن الكابتن يكذب والفيديو قديم حيث يعود تاريخه على موقع «Tiktok» الصيني إلى 21 مارس 2024.
الى جانب إسقاط الطائرات الأمريكية من نوع MQ9 بشكل غير متوقع وفي زمن قياسي وفي أكثر من محافظة يمنية، لم يكن استهداف حاملة الطائرات «يو إس إس دوايت إيزنهاور» حدثاً عادياً، بل سابقة، لم يجرؤ أحد على فعلها حتى الدول العظمى المتصارعة مع واشنطن، هذه الخطوة اليمنية الجريئة كسرت الاستكبار والهيمنة الأمريكية باعتبار الحاملة إيزنهاور من أهم أدوات الهيمنة الأمريكية على العالم، وبوضوح أبدت الأوساط العسكرية في بكين وموسكو ذهولها من الجرأة اليمنية في ضرب أدوات الغطرسة الأمريكية وكسر شوكتها، واقترح خبراء عسكريون روس على الكرملين، الردّ على رفع القيود الأمريكية عن استخدام أوكرانيا أسلحة غربية وأمريكية لضرب العمق الروسي، «بتسليح اليمن» بأحدث أنواع الأسلحة، ويتساءل الخبراء لماذا، نظرياً، لا يستطيع اليمن امتلاك صواريخ أسرع من الصوت من نوع خنجر؟ نحن لسنا معنيين، صنعاء تحدّد بنفسها الخطوات التي يجب اتخاذها لحماية سيادتها، أنت ترسل لنا صواريخ إلى بلغورود عبر القوات الأوكرانية، ونحن نرسل لك صواريخ خنجر لضرب حاملة الطائرات في البحر الأحمر عبر اليمنيين، وبحسب هؤلاء الخبراء، ربما يكون سيناريو التعاون الروسي -اليمني، هو الذي سيجعل واشنطن تفكّر في التراجع عن خطواتها الأخيرة.
الإعلام الصيني أيضاً كان حاضراً في مواكبة خبر استهداف حاملة الطائرات الأمريكية ونشرت بكثافة «خدمة أخبار الصين» و«غلوبال تايمز»، والإذاعة الصينية المركزية ووسائل الإعلام العسكرية وغيرها من الوسائل الرسمية، الأخبار عن استهداف «إيزنهاور»، فيما أثار الخبر متابعة وتأييداً من الجيش السيبراني التابع لـ«الحزب الشيوعي الصيني»، ونُشرت مقاطع فيديو عنوانها «ليس من المهم ما إذا كانت الصواريخ اليمنية أصابت هدفها أم لا... المفتاح هنا أنهم ضربوا، فأي لكمة يمكن أن تضرب وجه الأمريكي، ستكون ناجحة».
التأييد الروسي الصيني إزاء العمليات اليمنية التي أصابت رأس الغطرسة الأمريكية لا يمكن قراءته بشكل عابر وإنما يفترض البناء عليه في نسج علاقات عسكرية حقيقية مع الروسي الذي يريد تصفية حساباته مع واشنطن جراء ما تفعله به عبر أوكرانيا، وكذلك الصيني الذي يخوض حربا اقتصادية وبيولوجية واسعة مع واشنطن، واليمن أصبح في ظل قيادة أبو جبريل لاعباً إقليمياً ورقماً صعباً في المنطقة لاسيما في ظل انزواء الدور الأمريكي وتراجع الهيمنة الغربية، وفي معركة إسناد غزة بدت القوة اليمنية أكثر وضوحاً للعالم الذي كان يسير وراء السردية الغربية عن تبعية صنعاء لطهران، لتتجلى الصورة عن قوة تراكمت خلال سنوات العدوان على اليمن وأصبحت اليوم محور ارتكاز لتغيير خارطة النظام العالمي الذي يترنح في آخر أيامه.
حزب الله يشعل الحرائق لإضاءة الطريق نحو القدس
منذ اللحظة الأولى لتحرك المقاومة الإسلامية في جبهة شمال فلسطين المحتلة، حقق حزب الله وفصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية في جنوب لبنان، إنجازات لا تعد ولا تحصى، وعلى الرغم من محاولات كيان العدو فرض تعتيم إعلامي كبير على ما يحدث في الجبهة الشمالية إلا أن الميدان تمكن من كشف الحقائق، وتمكّن حزب الله من قيادة عملية ملائمة متفوّقة في مرونتها وسرعة استجابتها العملياتية في تحقيق مكاسب استراتيجية للمقاومة، كما نجح بإعادة إفراز خطط وأدوات قفزت عن الواقع الصعب والمعقّد في ميدان مقيّد بالجغرافيا والنار، فلم ينجح فقط بتحييد المدنيين في معركة تراكمية تصعيدية ولجم حدود النار جغرافياً، بل بكسر التوازن الميداني العسكري لصالح المقاومة، وتحقيق إنجازات نوعية تتخطى فعل الدعم والمساندة إلى مكاسب استراتيجية في الجليل تحديداً.
لتفنيد المشهد الذي يحاول العدو إطفاء زخمه إعلامياً، لا بدّ من تتبع مسار التصعيد من اللحظة الأولى للعمل العسكري وما يلحقه من نتائج وإجراءات مضادة، لقياس خط التصعيد والعناصر التي تتحكم به ومن يتحكم في إدارة المعركة، ثم الخروج بعناوين واضحة للاستراتيجيات المتبعة عند كل طرف، ومحاولة تجزئة الإجراءات التكتيكية في التعامل مع الأهداف والمعالجات الموضعية، لبناء مشهد متكامل يحدد ميل ميزان التصعيد لأي طرف.
توزعت مراحل التصعيد في جبهة الشمال على 5 مراحل، بانتقال دقيق يخدم الأهداف التي فُتحت الجبهة لأجلها، يحكم كل مرحلة عدة معايير تحدد طبيعتها، تطور التكتيكات الميدانية، وطبيعة الاستهدافات، والأسلحة المستخدمة، وتوسع الرقعة الجغرافية لدائرة النار، وزخم العمليات.. انطلاقاً من هذا التقسيم يمكن رصد التحولات، مدى نجاعة السياسات المضادة، وتأثيرها في سلّم التصعيد.
في المرحلة الأولى التي كانت بمثابة مرحلة مراكمة النقاط وتم خلالها ضرب نقاط التفوق للعدو وفرض إعماء استخباراتي، المرابض المدفعية، النقاط الدفاعية، خطوط التحرك والإمداد الأمامية، الآليات، استخدمت فيها المقاومة الأسلحة المناسبة والفعّالة.
والمرحلة الثانية التشتيت وخلق الإرباك لمنع العدو من إعادة ترميم وتأهيل قدراته التجسسية وتحويلها فرصة لتعريض القوات للقتل، وتحويل مراكز القيادة والقواعد إلى نقاط ضعف في خطة الانتشار والاستعداد العسكري بفعل الاستهداف المتكرر، ومواصلة الهجمات الموضعية، وإدخال صواريخ بركان 1 و2.
وفي المرحلة الثالثة جاء دور الإحباط الاستراتيجي والانتقال النوعي في الأهداف بضرب قاعدة ميرون الجوية، وضرب العمق التعبوي مثل مراكز الاتصالات والسيطرة والمراكز القيادية ومستودعات الإمداد والذخيرة وأفواج المدفعية الثقيلة والتجمعات الكبيرة للجنود والآليات، التي تعتبر في الترتيب الهيكلي للمنطقة الشمالية وتركيز الاستهدافات على عقدة القوة في الشمال «ألوية الدروع والمشاة في الفرقتين 91 و210»، وإدخال منظومات صاروخية جديدة مباشرة وصغيرة الحجم وخفيفة الحمل وذات قدرة تدميرية عالية بمدى فعال يصل إلى 10-12 كلم، وضرب القوة الدفاعية باستهداف منصات القبة الحديدية «كفار بلوم -بيت هيلل»، وتوسيع نطاق المسيرات التي وصلت إلى خليج حيفا.
المرحلة الرابعة وهي مرحلة الإيلام وجباية الثمن حيث شهدت تحولاً بارزاً ببدء مرحلة الدفاع الجوي وإسقاط المسيّرات، إسقاط طائرتي هيرمز 450 وهيرمز 900، ورفع سقف الضربات النوعية على مستوى القيادة: ضرب قيادة المنطقة الشمالية في صفد، وإدخال منظومتي فلق 1 و2 ومنظومة ألماس 1، والمسيّرات من الجيل المطور، وتوسيع دائرة النار لتتوسع منطقة القتل إلى حيفا وعكا.
وفي المرحلة الخامسة وسعت المقاومة عملها خارج حدود قواعد الاشتباك الضيقة، من دون اختراق الخطوط الحمراء الاستراتيجية، باجتياز المقاومة 32 كلم في العمق «الإسرائيلي» على غارة النبي الشيت وأطراف بريتال الشرقية، وإدخال نظام قتال الأسلحة المشتركة في تطبيقاتها القتالية لإحداث أكبر حجم من الأذى، وتفعيل سياسة الإضعاف الشامل لنظام طبقات الدفاع الجوي المتكامل، من خلال تفكيك منظومات القبة الحديدية (البطاريات -أنظمة التعقب -الرادار)، وإسقاط منطاد الحرب الإلكترونية «سكاي ستار 330» في مستوطنة «أدميت»، واستهداف قاعدة «إيلانية» غربي مدينة طبريا (منظومة المراقبة والكشف الشاملة لسلاح الجو)، وإسقاط الجزء الأهم من مشروع «طال شمايم»، واعتماد سياسة القتل بالقتل المركّز الواضح «للتأديب والكبح» لوحدات واستعدادات حساسة في جيش العدو، باستهدافها لمنظومتي القبة الحديدية في قاعدة بيت هيلل ومركز الجنود في عرب العرامشة، واستخدام صواريخ ثقيلة بقصد الإيذاء، وتفعيل النشاط الاستخباراتي بأدوات أكثر تطوراً، وإدخال أسلحة جديدة: صاروخ جهاد مغنية (صاروخ تكتيكي غير موجه)، المسيرات المسلحة باستخدام صواريخ S5 في عملية على المطلة، وتفعيل سياسة «المنازل المدنية مقابل المنازل المدنية»، برد فوري، كاستهداف «كريات شمونة» و«أفيفيم» لإيقاع أضرار مادية ومعنوية.
خلال شهر مايو/ أيار المنصرم شهدت جبهة الشمال توسعاً في نطاق العمليات الهجومية للمقاومة، لتشمل أهدافاً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك مصانع تابعة لوزارة حرب العدو، مثل مصنع «ديفيد كوهين» التابع لشركة «إلبيت» للصناعات العسكرية، واستهدفت المقاومة قواعد لوجستية للعدو، مثل قاعدة «تسنوبار» في الجولان المحتل، بهدف تعطيل إمدادات العدو وضرب خطوط إمداده.
وأدت الهجمات المكثفة التي شنتها المقاومة إلى إيقاع العديد من القتلى والجرحى في صفوف العدو، بما في ذلك ضباط وجنود من وحدات النخبة مثل «لواء غولاني» و«اللواء 551»، ووحدة «الجمع الحربي» في عرب العرامشة، وشلل شبه تام في حركة العدو حيث تشير التقارير الميدانية إلى نجاح المقاومة في شلل حركة العدو على الحدود وإجباره على التحصّن في مواقعه والتخلي عن أية خطط هجومية، وتدمير وتعطيل مواقع عسكرية للعدو، بما في ذلك ثكنات، ومرابض مدفعية، ومواقع دفاع جوي، ومواقع للقيادة والتحكم، من خلال استخدام تكتيكات أكثر تطوّراً وتوسيع نطاق الأهداف وتُظهر البيانات تطوّراً مستمراً في قدرات المقاومة الإسلامية على صعيد الأسلحة والتكتيكات وإدارة العمليات العسكرية. يُمكن القول إن عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان خلال الشهر المنصرم أسهمت في تغيير موازين القوى على الأرض، وأجبرت العدو على التراجع وتغيير خططه.
خلال الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران الجاري أشعلت المقاومة الإسلامية في لبنان الحرائق في حوالي الـ20 نقطة في الشمال في ظل صعوبة السيطرة عليها، ما أدى إلى احتراق العديد من البؤر الاستيطانية وقرب مواقع الاحتلال الصهيوني في الجليل الأعلى والجولان المحتل، جراء الصواريخ التي أطلقها حزب الله، وسبّبت الحرائق أضراراً كبيرة سيستغرق إعادة ترميمها عدة سنوات، وقد اعتبر يائير لابيد أن اشتعال الشمال سيحترق معه الردع، ومن أبرز الأضرار التي تسببت بها النيران، تم حرق العشرات، وربما حتى المئات والآلاف من الدونمات من الغابات والمراعي منذ الشهر الماضي في الجليل وهضبة الجولان.
وأصيب 11 شخصاً جراء استنشاق الدخان، ستة منهم من جنود الاحتياط وخمسة مستوطنين، وتم نقلهم لتلقي العلاج في مستشفى زيف في صفد، وسجلت أضرار بالغة في ناحال تنور، قاعدة عيون بالقرب من المطلة، سدوت يافيت وأجزاء كبيرة من سلسلة جبال رميم، ووادي الحولة على طوله، ومنطقة موشاف مرغليوت، مسكاف عام، تل حاي وكفر جلعادي.
بالإضافة إلى اشتعال النيران في المنازل القريبة من مراكز الحرائق، وإصابة نظام الاتصالات في كريات شمونة بخلل بعد تضرر البنية التحتية للاتصالات جراء الحريق الكبير، وفي عميعاد، وبحسب طواقم الإطفاء، فإن النيران التهمت نحو 4000 دونم، وإلحاق أضرار كبيرة في العديد من المستودعات.
عقب اندلاع الحرائق واشتعال جبهة الشمال بالنيران دعا وزيرا الأمن القومي «الإسرائيلي» إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش إلى «حرق لبنان كله»، وهي تصريحات قديمة متكررة منذ دخول المقاومة في عملية «طوفان الأقصى»، وبحسب تقديرات الأوساط العسكرية للمقاومة في لبنان أن التصعيد «الإسرائيلي» وارد، وأن العائق أمام قرار الحرب الشاملة مع لبنان ليس سياسياً والمشكلة الحقيقية لدى العدو هي عدم الجهوزية للدخول في حرب شاملة نتيجة غرقه الكبير في غزة وعدم استطاعته تجاوز قرار الحظر البحري والهجمات الصاروخية والمسيرة من اليمن والعراق، فضلاً عن معرفته الكاملة بالقدرات العسكرية لحزب الله التي يكتوي بنيرانها منذ ثمانية أشهر، ويرجح المراقبون إمكانية الحرب الشاملة إذا تدخلت واشنطن بشكل مباشر في شن هجمات عسكرية على لبنان مستغلة الفراغ الاستراتيجي في طهران وانشغالها بالانتخابات الرئاسية.
ضربات موجعة للكيان والقواعد الأمريكية
لم يكن مستغرباً موقف العراق الرسمي إزاء العدوان الصهيوني الوحشي على الشعب الفلسطيني في عملية «طوفان الأقصى»، وأمام الصمت والتخاذل العربي والتطبيع الخليجي، سجل العراق موقفاً متقدماً في دعمه للشعب الفلسطيني في مواجهته للاحتلال الصهيوني، وعلى الرغم من تنوع التشكيلة السياسية والتوجهات العقائدية والحزبية في العراق إلا أنه بدا منسجماً تماماً سياسياً ودينياً وشعبياً في جبهة الإسناد لفلسطين، جنباً إلى جنب مع اليمن ولبنان.
مواقف حكومة السيد محمد شياع السوداني كانت منسجمة مع حماس وتأييد المجتمع العراقي لعملية «طوفان الأقصى»، كما أنها منسجمة مع بيانات المرجعية الدينية في النجف الأشرف التي صدرت بهذا الخصوص، إذ إنها أدانت بشدة هذا العدوان، وحملت المجتمع الدولي مسؤولية إيقاف نزيف الدم.
من يتابع خطابات رئيس الوزراء العراقي في أكثر من مناسبة في ما يتعلق بعملية «طوفان الأقصى» يجد الرجل يتحدث بثقة عالية بالنفس، ومتكئاً على عمق المجتمع العراقي والمرجعية الدينية، وإنسانية القضية الفلسطينية وعقائديتها، وفي كلمته أمام القمة المصرية التي عقدت بعد أسبوعين من عملية «طوفان الأقصى» والعدوان «الإسرائيلي» كان خطاب الحكومة العراقية أكثر وضوحاً وجرأة وصراحة، إذ وصف السيد السوداني بأن ما يقوم به الكيان الصهيوني هو عملية «إبادة جماعية، وعبر فيه الكيان الصهيوني عن وجهه الحقيقي»، خطاب الحكومة العراقية في هذه القمة وبهذه الثقة بالنفس كان يعبر عن الرأي الفقهي الإسلامي من جهة والذي عبرت عنه المرجعية الدينية، وكذلك يعبر عن نبض الشارع العراقي المنسجم تماماً مع موقف الحكومة العراقية.
بيان مرجعية السيد السيستاني بقوة كلماتها وإدانتها للعدوان الصهيوني كانت حاضرة في كلمات وخطابات الحكومة التي لم تتحدث من زاوية إنسانية أو سياسية فحسب، بل كانت من زاوية إسلامية أيضا، ولهذا اكتملت أركان الموقف العراقي من أبعاده الدينية والاجتماعية والإنسانية، فكان موقف الحكومة يمثل تعبيرا حقيقيا عن عمق القضية، ومن يتابع بيانات المرجع الأعلى السيد السيستاني يجد ذلك الوضوح في الحكم على ضرورة «إزالة الاحتلال من الأراضي الفلسطينية»، بل إنه يدعو العالم «للوقوف بوجه هذا التوحش الفظيع ومنع تمادي قوات الاحتلال عن تنفيذ مخططاته لإلحاق مزيد من الأذى بالشعب الفلسطيني المظلوم»، كما أن المرجع يؤكد أن السبيل الوحيدة لنيل الشعب الفلسطيني حقوقه، وإحلال السلام في المنطقة تكمن بـ«إزالة الاحتلال من أراضيه».
هذا الانسجام بين المرجعية الدينية والشعب العراقي من جهة، وبين الحكومة العراقية من جهة أخرى هو الذي أعطى زخما كبيرا للحكومة أن تقوم بواجبها القانوني والأخلاقي والشرعي، حتى إن بعض الأطراف التي تدور في فلك السفارة الأمريكية لم تستطع أن تعبر عن رأيها برفض التأييد العراقي في هذه المواجهة، كونها تعد حالات شاذة لا قيمة اجتماعية لها، ومنبوذة سياسيا أيضا، لهذا آثرت الانزواء على نفسها.
من ذلك كله نجد أن جبهة المقاومة الإسلامية في العراق كانت بمستوى الحدث أيضا، واعتمدت في عملياتها العسكرية ثلاثة مسارات، الأول والثاني لاستهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، والثالث في توجيه الضربات إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونفذت المقاومة الإسلامية في العراق 285 عملية الأشهر الثمانية الماضية.
بالاستفادة من أوراق القوة الجغرافية لدى المقاومة الإسلامية في العراق بقدرتها على الوصول إلى القواعد العسكرية الأمريكية نفذت المقاومة 90 عملية ضد القواعد العسكرية الأمريكية داخل الأراضي العراقية وكان النصيب الأكبر من هذه العمليات على قاعدة «عين الأسد» المحتلة غرب العراق، وقاعدة «حرير» الجوية في أربيل، ومراكز للتجسس الفني تابعة للكيان الصهيوني شمال شرق أربيل، بالإضافة إلى إسقاط طائرة مسيرة من نوع MQ9 تابعة للاحتلال الأمريكي في سماء محافظة ديالى.
وفي المسار الثاني نفذت المقاومة العراقية 89 عملية على القواعد الأمريكية في سوريا، استهدفت خلالها قاعدة الاحتلال الأمريكي في حقل العمر النفطي بالعمق السوري، وقاعدة ياردن في الجولان المحتل، وقاعدة «خراب الجير» التي تؤوي «قوات أمريكية» في شمال شرق سوريا، وقاعدة الاحتلال في حقل كونيكو، وقاعدة «هيمو» المحتلة والتي تقع إلى الغرب من مطار القامشلي، وقاعدة «قسرك» المحتلة بريف الحسكة، وقاعدة الرميلان وقاعدة «تل بيدر» غرب مدينة الحسكة السورية.
تأتي أهمية عمليات المقاومة العراقية باستهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا من أهمية الهدف الاستراتيجي لتواجد هذه القواعد التي تعتمد عليها الولايات المتحدة الأمريكية لحماية الكيان الصهيوني من هجمات فصائل محور المقاومة في المنطقة، وإلى جانب هذه الأهمية عملت المقاومة الإسلامية في العراق على تنفيذ 106 عمليات هجومية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، استهدفت خلالها، مواقع هامة في «تل أبيب» وحيفا وأم الرشراش «إيلات» وأهدافاً حيوية في منطقتي وادي أريحا وقاعدة «نيفاتيم» الجوية في بئر السبع، وميناء عسقلان النفطي، ومنصة «لوياثان» الغازية، وقاعدة اليفالط الصهيونية شمال بحيرة طبريا، ومطار «بن غوريون» ومبنى مقر وزارة دفاع الكيان الصهيوني، وأهدافاً حيوياً للكيان الصهيوني على سواحل البحر الميت والبحر الأبيض المتوسط، ودخلت ضمن تحالف العمليات المشتركة مع القوات المسلحة اليمنية، في خطوة تصاعدية وتصعيدية ضد الكيان الصهيوني وما يقوم به من تصعيد مستمر في «رفح».
كل هذه التطورات في جبهة الإسناد العراقية تدل على امتلاك محور الإسناد للمقاومة الفلسطينية من اليمن إلى لبنان وصولاً إلى العراق، الكثير من خيارات وأوراق القوة التي لم يستخدم منها سوى القليل ضمن مسارات تصاعدية وإيقاع متناسق ومتناغم تديره غرفة عمليات واحدة تجعل يد المقاومة هي العليا والقادرة على تحقيق النصر المؤكّد وإفشال كل المخططات «الإسرائيلية» والأمريكية، ولا تؤدي كل هذه التضحيات، إلا لزيادة العزم والإرادة حتى تحقيق الهدف الأسمى بتحرير كل فلسطين.