تتمتع الشعوب بذاكرة تاريخية لا تنسى، وبوعي وطني مدهش يفوق خيال الروائيين، ويتوفر لدى الجماهير الشعبية إحساس حاد ومرهف بالانتماء الوطني حتى ولو لم تكن لديها معرفة علمية متخصصة عن تاريخها والتمسك بوحدتها الإقليمية والسياسية. والجماهير الشعبية اليمنية اليوم، وفي مواجهة العدوان، ترى في جيزان ونجران وعسير أراضي يمنية محتلة، فلم تعد هذه القضية في سجل التاريخ، بل خرجت إلى اهتمام الرأي العام اليمني. عبر التاريخ اليمني، مثلت ضرورة استعادة أقاليم جيزان ونجران وعسير، جزءاً من قضية تحقيق الدولة اليمنية الموحدة المستقلة، وهي عملية تاريخية، بدأت حركتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولاتزال مستمرة.
بعد ابتلاع ابن سعود للأراضي اليمنية التي كانت ضمن إمارة إدريسية، حاول أنصار الإدريسي القيام بانتفاضة ضد الإدارة السعودية، إلا أن اليمن المتوكلية لم تنتهز الفرصة السانحة للاندفاع العسكري بجانب مقاومة الأدارسة، فكان ذلك خطأً تاريخياً فادحاً.
وفي 1933 انتهت مقاومة الأدارسة، وكان على الإدريسي أن يتوجه إلى صنعاء، لتحريض اليمن على استعادة عسير تهامة.
توجه الجيش اليمني، إلى نجران لانتزاعها، حيث إن نجران كانت في ذلك الوقت غير خاضعة تماماً لابن سعود، وكانت السلطات السعودية تواجه بمقاومة يمنية شرسة خلال العشرينيات، ومن أجل قطع الطريق على محاولات ابن سعود مد نفوذه إلى نجران، زحفت قوات حكومية يمنية وشعبية أخرى نحو جبال عسير تهامة، مدعومة بقوى المقاومة اليمنية من أنصار الأدارسة، فأدى تطور هذه الأحداث إلى تفجر الحرب بين المملكة المتوكلية اليمنية والمملكة العربية السعودية.
وهكذا اندلعت الحرب في 22/3/1934، والتي انتهت بعقد “اتفاقية الطائف” في 19/5/1934.
ولم يكن هدف ابن سعود في هذه الحرب انتزاع نجران وعسير وجيزان، بل ابتلاع اليمن بكلها، وضمها إلى مملكته الوهابية.
علق ابن سعود آماله على اختراق هضبة صعدة واخضاعها، إلا أن الجيش اليمني والمقاومة الشعبية، تصدت لهذه المحاولات بقيادة الأمير أحمد حميد الدين، وتمكن القوات اليمنية من كسر الزحف السعودي الوهابي بشكل تام.
في اليوم الثاني من دخول الأمير فيصل إلى الحديدة، نشبت معارك بين الجيش اليمني والجيش السعودي، في قاع باقم وفي النقعة ويباد والشطبة وعلس من لواء صعدة، وقد اشتركت في معارك المقاومة فصائل من الجيش الذي انسحب من تهامة، وأسهمت بفاعلية قوى محاربة من قبائل سحار، وبني جماعة وغيرها من قبائل صعدة، وقد شن جيش التحرير اليمني هجوماً عاماً وعاصفاً على القوات السعودية التي كانت مرابطة هناك.
حسم اليمنيون المعركة في صعدة بكفاح شديد الضراوة خلال يومين، من 7 إلى 8 مايو 1934م، وقد كبدت قوى التحرير الشعبية اليمنية جيش العدو السعودي خسائر فادحة، فقد بلغت الحسائر السعودية حوالي 2000 قتيل وجريح، و400 أسير و360 جملاً و32 مدفعاً و9 سيارت سليمة و27 سيارة محطمة، وعدداً كبيراً من الخيام.
وفي حالة من الاضطراب والذعر ولى ابن سعود وفلوله المندحرة في اتجاه نجران، وكفوا عن طموحاتهم في ابتلاع اليمن، وضمها إلى المملكة الوهابية.
اتفاقية الطائف والحقوق التاريخية اليمنية
استطاع الجيش اليمني الصمود خلال حرب 1934م التي لم تكن متكافئة من ناحية التسلح. صمد الجيش اليمني في المناطق الجبلية التي يجيد فيها القتال بأسلحته المتواضعة، ونظراً لفقدانه المعدات الحربية الحديثة التي كان يمتلكها الجيش السعودي المدعوم بريطانياً، اضطر الجيش اليمني أن يخلي تهامة، للزحف السعودي المجهز بالآليات المتقدمة نسبياً، فكان من السهل على العدو السعودي بلوغ الحديدة، ولم يحاول قائد جيش الغزو السعودي الأمير فيصل محاولة اقتحام “العقبة” بالتقدم نحو المنطقة الجبلية، وفضل المكوث بالحديدة، فقد أثبتت كل تجارب الجيش العثماني أن محاولة صعود الجبال اليمنية مكلفة للغاية!
بانكسار القوات السعودية في صعدة، وبقائها في الحديدة معرضة للهجوم اليمني من الهضبة، كان على الملك السعودي إعادة النظر في استراتيجيته التي دخل بها الحرب، وهي الاستراتيجية الطامعة إلى أخذ اليمن كلها، وضمها لمملكته الوهابية، فأقتنع بالانسحاب من تهامة، مقابل الإبقاء على عسير ونجران تحت سلطانه.
وعلى هذا الأساس عقدت اتفاقية الطائف لمدة 20 عاماً قابلة للتعديل والتجديد، وبمقتضاها تركت اليمن الملكية أمر عسير ونجران (معلقاً)، حتى جاء رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني، الذي تجاهل حق اليمن في تعديل وتجديد هذه المعاهدة، وخول ممثليه القاضي عبد الله الحجري رئيس الوزراء، ومحمد أحمد نعمان نائب رئيس الوزراء، بإصدار البيان اليمني السعودي الذي أُعلن في 17/3/1973، واعتُبرت بمقتضاه الحدود اليمنية السعودية نهائية مرسمة بشكل نهائي، وهو ما يتناقض مع فحوى وروح الاتفاقية.
كان اليمن في موقف الضعف العسكري خلال حرب 1934م، هو ما دفع الإمام يحيى لقبول إيقاف الحرب والدخول في اتفاقية الطائف، إلا أن الدولة اليمنية لم تتخلَّ عن يمنية الأراضي المحتلة (عسير ونجران وجيزان)، فقد احتفظت بحق إعادة النظر في الاتفاقية في الوقت الملائم، حيث نصت المادة 22 على أن تظل الاتفاقية “سارية المفعول مدة 20 سنة قمرية تامة، ويمكن تجديدها أو تعديلها خلال الـ6 أشهر التي تسبق تاريخ مفعولها، فإن لم تجدد أو تعدل في ذلك التاريخ، تظل سارية المفعول إلى ما بعد 6 أشهر من إعلان أحد الفريقين المتعاقدين للفريق الآخر رغبته في التعديل”. ويتضح من نص الاتفاقية أنها لم تكن «نهائية»، وأنها لم تعط «حقوقاً ثابتة ودائمة» للطرف السعودي السائد في المنطقة، حتى ولو لم يجددها أو يعدلها الطرفان المتعاقدان.
لم يكن التنازل عن الأراضي اليمنية، الذي قام به الرئيس الإرياني فقط مخالفاً لاتفاقية الطائف ذاتها، بل إن هذا الإعلان كان مخالفاً أيضاً للبيان الجمهوري الذي صدر عام 1965، وأعلن فيه اليمن تمسكه الكامل والمطلق بملكية وتبعية عسير ونجران للجمهورية العربية اليمنية، أرضاً، وبشراً، وتاريخاً، ومصيراً.
وجدير بالذكر أن مجيء الإرياني إلى رئاسة السلطة في الجمهورية العربية اليمنية، كان بدعم سعودي، بعد أن دبرت القوى الموالية للسعودية في الصف الجمهوري انقلاباً على الرئيس عبد الله السلال، في 5 نوفمبر 1968م، حيث إنه كان للرئيس السلال موقف مقاوم للهيمنة السعودية وللعدوان السعودي على الثورة، ويُعتبر السلال أول قائد يمني دعا لمواجهة السعودية بعد الإمام يحيى.
بيان التنازل عن الأراضي اليمنية وتسوية القضية الحدودية بشكل نهائي، في عهد الحكومة الموالية للسعودية برئاسة الإرياني، لم يكتسب آنذاك أية مشروعية قانونية، إذ لم يكن هناك أية مؤسسات دستورية منتخبة ديمقراطياً، لتعبر عن قرار الشعب اليمني مصدر السيادة في قضية بهذه الأهمية، التي قدم في سبيلها قوافل التضحيات، والتي ترتبط بنضاله الطويل من أجل بناء الدولة الوطنية اليمنية، وبعث أمجاده وحضارته التاريخية السبئية والحميرية.
توالت الحكومات اليمنية الموالية للسعودية، وتوالت التنازلات في القضايا الداخلية والخارجية، استمر التدهور اليمني، حتى جاءت ثورة 21 سبتمبر 2014م، الثورة الشعبية التي صححت مسارة ثورة فبراير، وأعادت السيادة على القرار والمصير الوطني للشعب اليمني. ومن أجل قمع حرية الشعب اليمني ونهب حقوقه تشن المملكة العربية السعودية عدوانها الإجرامي، منذ 4 أعوام.
ولذلك، فإن قضية المخلاف السُّليماني (نجران وجيزان وعسير) تبقى “مشكلة حدودية” بين اليمن والسعودية، تنتظر الحل العادل، بما يضمن حسن الجوار والأخوة والاحترام المتبادل والتعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل من البلدين.