كثفت فرنسا حضورها العسكري في البحر الأحمر خلال الفترة الماضية، وأعلنت باريس عن التصدي لمسيّرات وصواريخ من اليمن بواسطة الفرقاطة “لانغدوك” (المضادة للغواصات) التي تعمل في البحر الأحمر وإلى جانبها تعمل الفرقاطة “الألزاس” ذات القدرات الدفاعية الجوية، كان آخرها عملية تصد معلنة في 21 آذار/ مارس الماضي 2024.
فرنسا دولة استعمارية عريقة، وصاحبة النفوذ الإمبريالي الأكبر في الشام وشمال وغرب أفريقيا، وكان لها مستعمرة في القرن الأفريقي هي جيبوتي، ولطالما كانت المنافس الأول لبريطانيا في البحر الأحمر إبان الاستعمار القديم، ولدى فرنسا عدد كبير من القواعد العسكرية في العالم، في أفريقيا ومنطقة الخليج وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي وجنوب المحيط الهادئ.
حضور فرنسا الراهن في البحر الأحمر مرتبط باستراتيجيتها البحرية العامة، فهي تنظر باهتمام إلى منطقة الخليج والبحر الأحمر، وتقوم بمناورات دورية مع مصر على ساحل البحر الأحمر، وذلك لأهمية منطقة الخليج ذاتها، ولأهمية اليمن جيو سياسياً واقتصادياً، إذ تعمل “توتال” الفرنسية للغاز في اليمن.
وتكثف فرنسا وجودها العسكري لأهمية المنطقة الجيو – سياسية، لكونها مدخلاً للمحيط الهندي، إذ تمتلك فرنسا مصالح وبقايا نفوذ في المحيط الهندي في دول “الهند الصينية” التي كانت مستعمرات فرنسية سابقاً، وهي عضو في رابطة بلدان حافة المحيط الهندي، ويقطن فيها ما يقرب من مليون مواطن فرنسي، وتتنامى بسرعة كبيرة العلاقات الفرنسية مع دولة الهند بصورة خاصة.
تخشى فرنسا حالياً من تطور البحرية الصينية في تلك المنطقة، لهذا تعزز حضورها في مدخل المحيط الهندي، ووجدت في التطورات في البحر الأحمر المرتبطة بـ”طوفان الأقصى” فرصة لتوطيد وجودها العسكري في المنطقة.
الحضور الفرنسي مستقل عن التحالف الأمريكي البريطاني المسمى “تحالف الازدهار”؛ إذ إن لفرنسا مصالحها الخاصة في الحضور حتى لو لم تتواجد الولايات المتحدة، وميدانياً تنسق فرنسا مع القوات الأمريكية والبريطانية ضد القوات المسلحة اليمنية - صنعاء ضمن مفهوم “العمل المشترك”.
تعد بحرية فرنسا طرفاً في البعثة الأوروبية في البحر الأحمر “أسبيدس”، إلّا أنها تخضع للقيادة الوطنية الفرنسية لا الأوروبية.
البحرية الفرنسية في البحر الأحمر
في مطلع كانون الثاني/ يناير 2024، قال الجيش الفرنسي إن سفينة حربية فرنسية ثانية وصلت إلى منطقة البحر الأحمر في إطار الجهود لضمان حرية الملاحة - حد زعمه، وتقوم القوات الفرنسية بدوريات في البحر الأحمر، إلى جانب التحالف الأمريكي البريطاني. وكانت قد حددت فرنسا مهمتها “بمرافقة السفن المرتبطة بفرنسا طوال عبورها، وحمايتها من الهجمات”، وأن هذه الدوريات تتم بالتنسيق مع عملية “حارس الازدهار”؛ ولكن دون خضوع للشريك الأمريكي، بحسب الأميرال الفرنسي إيمانويل سلارز، القائد المشترك للقوات الفرنسية في المنطقة.
التركيز على الاحتفاظ بالقيادة المستقلة للبحرية الفرنسية يعكس رغبة باريس في الحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي، ما يتيح لها رعاية ما تعدها “مصالحها الوطنية”، ويمنحها قدرة على الاستجابة بمرونة للتحديات الإقليمية دون الانحياز بشكل صارم لسياسات أو استراتيجيات الولايات المتحدة وبريطانيا، ومثال على ذلك علاقتها مع الصين وموقفها من الصراع في بحر الصين الجنوبي؛ إذ تقدم نفسها بصورة مختلفة عن أمريكا والاتحاد الأوروبي.
بحسب التصريحات الفرنسية، فمهمتها لا تشمل توجيه ضربات عسكرية إلى اليمن، وكان قد قال الرئيس الفرنسي ماكرون إن فرنسا لم تشارك في الضربات التي تقودها الولايات المتحدة؛ لأنها تريد تجنب تصعيد إقليمي.
الاهتمامات البحرية الفرنسية
تعد فرنسا أبرز الدول الأوروبية التي لها مصالح إقليمية في منطقة المحيط الهندي في ما كانت تعرف بدول “الهند الصينية”، مستعمراتها السابقة. تعد باريس أن المنطقة المذكورة حيوية بالنسبة إليها، حيث إن 1.5 مليون مواطن فرنسي يعيشون فيها (كاليدونيا الجديدة، بولينيزيا الفرنسية، جزيرة لا ريونيون...)، كما أن 93% من المنطقة الاقتصادية الفرنسية الخالصة تقع فيها، وهو ما يجعلها أكثر اهتماماً بالبحر الأحمر كممر استراتيجي.
تطمح فرنسا إلى أن تكون لاعباً مهماً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهي تسعى للاضطلاع بدور قوة توازن، وصلة وصل بين الشمال والجنوب العالميين، وهي لذلك تعمل على تعزيز وجودها العسكري في المحيط الهندي، والبحر الأحمر هو أقرب الطرق من باريس إلى المحيط الهندي، فله أهمية حيوية في الاستراتيجية البحرية الفرنسية، والأمر مماثل لأهمية البحر الأحمر وعدن لبريطانيا حين كانت الهند مستعمرة إنجليزية في القرن الماضي.
كما أن فرنسا، التي خسرت نفوذها في غرب أفريقيا تريد تعويضه في شرق أفريقيا (مالي، النيجر، بوركينافاسو)، ولهذا سارعت إلى تمتين العلاقة مع جيبوتي التي تحتفظ بقاعدة عسكرية لها هناك، وبحث تجديد الاتفاقية الدفاعية.
وفي الخليج، قادت فرنسا ثماني دول أوروبية أخرى (بلجيكا والدنمارك وألمانيا واليونان وإيطاليا وهولندا والنرويج والبرتغال) في إطلاق مهمة مراقبة بحرية مخصصة في العام 2020 تهدف إلى “ضمان العبور الآمن في مضيق هرمز” حد تعبيرهم، وتشمل المبادرة، التي يقع مقرها الرئيسي في القاعدة البحرية الفرنسية في أبوظبي، مساراً دبلوماسياً ومساراً عسكرياً.
وتحتاج فرنسا إلى الظهور كقوة مؤثرة في البحر الأحمر أمام حلفائها الخليجيين، وخاصة الإمارات والسعودية، اللتين زاد اهتمامهما بالملاحة في البحر الأحمر خلال السنوات الأخيرة، على حساب تراجع الموثوقية بالنسبة لدول الخليج.
ولدى فرنسا في أبوظبي قاعدة عسكرية بحرية يعيش فيها 30 ألف فرنسي بصورة دائمة منذ العام 2009، ومن قبل ذلك سعت باريس إلى لعب دور أكثر نشاطاً في الأمن البحري الإقليمي منذ “حرب الناقلات” في الثمانينيات، عندما نشرت بشكل مستقل مجموعة حاملة طائرات في الخليج.
القاعدة الفرنسية في الإمارات تتيح لفرنسا أن تكون حاضرة في منطقة الخليج الاستراتيجية والبحر العربي، وفي شمال المحيط الهندي.
يتكامل دور القاعدة العسكرية الفرنسية في أبوظبي مع الوجود العسكري في البحر الأحمر، إذ تحتفظ فرنسا بوجود عسكري في جيبوتي منذ تأسيس المحمية الفرنسية خلال الفترة 1883-1887، وعقب حصول جيبوتي على استقلالها عام 1977 احتفظت فرنسا بالعديد من التسهيلات العسكرية وقاعدة عسكرية في جيبوتي، وتعد القوات الفرنسية في جيبوتي وهي أكبر الوحدات العسكرية الدائمة لفرنسا في أفريقيا، وقد تم توقيع اتفاقية للتعاون الأمني بين الطرفين في كانون الأول/ ديسمبر 2011 ودخلت حيز النفاذ في 1 أيار/ مايو 2014.
يكمن الهدف من هذه القاعدة في استخدامها أو توظيفها للتعامل مع الأزمات في منطقة القرن الأفريقي والمحيط الهندي ومنطقة “الشرق الأوسط” عند الضرورة.
بناءً على الطبيعة الإمبريالية الفرنسية ومصالحها في منطقة الخليج والمحيط الهندي، فسوف تضاعف باريس حضورها العسكري. هي حالياً تستغل الأحداث في البحر الأحمر، ولاحقاً سوف تكثف حضورها في جيبوتي وستعزز العلاقات العسكرية مع الدول المشاطئة للبحر الأحمر، كما أنها تسعى لتعويض خسارتها الأخيرة غرب أفريقيا، وتريد الظهور كحليف أمني موثوق بالنسبة لدول الخليج على حساب أمريكا.
وفي الواقع اليمني فمن المحتمل أن تقيم علاقات مع فصائل الحكومة العميلة الموالية للولايات المتحدة، التي تسيطر على سواحل غرب وجنوب وشرق البلاد، من أجل الحضور العسكري غير المباشر في اليمن، وكذلك من أجل الغاز والنفط اليمنيين.
* نقلا عن : لا ميديا