من بين الرسائل التي أرسلها السيد عبدالملك الحوثي لليمنيين وللخارج معا خلال خطابه بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، حظيت كلا من رسالته لإسرائيل بالرد المباشر والقوى والمؤلم باستهداف مواقع حساسة ومهمة، بنفس القدر من الاهتمام والمتابعة لرسالته للمملكة العربية السعودية بأنه لا اتفاق بدون وقف العدوان وفك الحصار.
وبغض النظر عن الألاعيب التي تمارسها سلطات التحالف السعودي -الإماراتي في الجنوب اليمنى، واستمرار بحثها عن مرتزقة لتمثيل دور (المحلل ) في الشمال، وفى ظل تضليل إعلامي يمارس على صنعاء كما لم يمارس على أي مكان آخر في العالم، جاءت رسائل (السيد ) لتضع سقفا جديدا، عاليا بالنسبة لطموحات صنعاء، ومنخفضا فيما يتعلق بأطماع السعودية بعد اتفاق الرياض (جدة سابقا )، ومزعجا بالنسبة لتل أبيب التي وضعت صنعاء ضمن محور العواصم المتمردة.
أما في تعقيب السيد حسن نصر الله في اليوم التالي، فقد أكد على ثابتين، أولهما أن اليمن أصبح يمتلك أسلحة مهمة فعلا، بما يشير إلى قدرته على قصف أهداف إسرائيلية سواء برية كمفاعل ديمونة مثلا، أو بحرية كسفن وبوارج حربية موجوده فعلا في مياه البحر الأحمر هنا وهناك، أما ما لم يقله وهو الثابت الثاني والأهم فهو أن اليمن لن يلتزم بما تلتزم به إيران أو حتى حزب الله نفسه في التعامل مع أي اعتداء إسرائيلي عليه.
لنعد إلى نقطة بداية وهى أن البركان الذى كان نائما منذ مئات السنين على باب المندب استيقظ، وأن المارد الذى يسكن قمم جبال اليمن وكهوفها قد خرج من القمقم، وأن البيئة الاستراتيجية التي توفرت عليها المنطقة العربية بعد غزو العراق تتغير بل تغيرت في اتجاهات متداخلة ومتضاربة، بحيث أن دولة كالسعودية تشترى في صفقة واحدة تمت في يوم واحد ب480 مليار دولار أسلحة وأشياء أخرى، ثم تضطر بعد أقل من عام لشراء أسلحة بما يوازى 28 مليار دولار، وتليها في ذلك قطر ثم الإمارات وغيرهما من دول الخليج.
نقول أن البيئة الاستراتيجية تغيرت بحيث تعجز قوات التحالف بأسلحتها ومرتزقتها وأموالها وقراراتها الدولية وإعلامها من تحقيق نصف انتصار في اليمن، بل بالمعايير العسكرية البحتة، فإنها تلقت هزيمة فادحة بالنظر إلى السلاح المتطور الذى امتلكته صنعاء أثناء سنوات الحرب، وبالمقاتلين الجدد من ذوى العقيدة الإيمانية والقتالية، وهم أجيال غير مسبوقة تدريبا واستيعابا للسلاح منذ حرب 1973.
السقوط الخليجي في الفخ الأمريكي
فى العام 2015 دشن باراك أوباما مفهوما جديدا أطلق عليه الصبر الإستراتيجي بمقتضاه ألغى الحرب على الإرهاب بضربات أمريكية استباقية، واعتمد مفهوما جديدا لقيادة أمريكا للعالم وهو، طالما أنت القائد فليس مهما أين يكون موقعك، وبديلا عن ذلك دشن سياسة التحالفات بدلا عن الأعمال الفردية، وانطلاقا من فهمنا لهذه السياسة، فقد نرى أن الحرب على اليمن أمريكية إسرائيلية بتحالف عربي يدفع ويشترى ويمول ويموت ويخسر، خدمة لمخططات الشرق الأوسط الجديد وتطبيع الوجود الإسرائيلي في العالمين العربي والإسلامي، وتأمين المصالح الإسرائيلية في البحر الأحمر، وغيرها من الأهداف التي تناقشها مراكز الدراسات حول العالم حول توزيع الأنصبة في العالم العربي بين أمريكا وروسيا والصين وأوروبا وغيرهم.
ما بين السلاح والسياسة.. هنا مفاوضات
لنرى الآن ماذا تمتلك الرياض وأبو ظبى اللتين تولتا مقعد القيادة في تطبيق نظرية الصبر الاستراتيجي الأمريكية في أهم بقعة بترولية وتراثية على وجه كوكب الأرض، وماذا تمتلك صنعاء بعد قرابة 5 سنوات من القتل والاقتتال المسبب والحصار والصمود.
فيما يتعلق بتحقيق نصر عسكري أو حسم رادع، فقد سقط هذا الخيار من يد تحالف السعودية –الإمارات، كان ذلك مؤكدا وما زال، رغم امتلاكهما بورقة الشرعية الدولية التي تلاعبا بها، معا أحيانا ومنفردين أحيانا أخرى، حتى أنتجت الاعتراف بالمجلس الانتقالي الجنوبي شريكا في عدن وما حولها، ولم تجرؤ أحدهما أو كلاهما على فرض هذه الشرعية على الشمال حتى اللحظة.
قد تمتلك دولتا التحالف القدرة على استعاضة السلاح كما تمتلكان ميزة الإمداد به طوال الوقت، بنفس الدرجة التي تمتلكان فيها ناصية الإعلام العربي والعالمي، ولكن قدرتهما على تغييب أي محاولة عربية أو إقليمية للنقاش حول مستقبل اليمن أو حتى الحالة الإنسانية المتردية فيه بسبب العدوان والحصار أخطر .
وهذه هي أهم أوراق تحالف السعودية – الإمارات على اليمن ونضيف إليها قدرتهما على تمويل وتغذية احتجاجات اجتماعية في مناطق سيطرة سلطة صنعاء واللعب على وتر الخلايا النائمة في ظل الحصار، خاصة أتباع النظام القديم ويتامى الجمهورية التي ما زالت جمهورية. فما الذي تمتلكه صنعاء؟
تمتلك ثورة وزعيما وجيشا ولجانا شعبية ومجلسا سياسىا وسلطة أمر واقع كما تقر بذلك وتعترف الأمم المتحدة وتمتلك سيطرة أمنية بحيث تبدو صنعاء أكثر أمنا من نيويورك، وتمتلك شعبا غالبيته تكيفت مع الحصار والجوع والمرض والنوم تحت القصف. ولديها تقارير حالة إنسانية أممية تكفى لمحاكمة قادة وعسكريين في التحالف أمام الجنائية الدولية، وما سبق قد يكون طبيعيا في ظل حالة الصمود ولكن غير الطبيعي والمعجز هو أنها باتت قادرة على تخزين وتصنيع وتطوير أسلحة مهمة، والأكثر أهمية أنها تستطيع قصف أهداف داخل دولتي التحالف بدون سقف أو حسابات سياسية كما حدث في حالة أرامكو ومطار أبو ظبى، وتستطيع أن تحيل المرور في البحر الأحمر وبحر العرب إلى مندب حقيقي، وأيضا بلا سقف وبلا حسابات سياسية .
صنعاء قتلت حجة شيعي وسنى في مناطق سيطرتها، ووأدت ذريعة الذراع الإيرانية في اليمن بحيث تشير التطورات إلى أن حاجة صنعاء لطهران لا تساوى شيئا إلى جانب احتياج طهران لصنعاء، وهذه نقطة مهمة جدا لم يحن بعد وقت تحليلها، وفى ظل تنازل السعودية يوميا عن مذهبها الوهابي الذى قامت عليه، وتقديمه كبش فداء لهيئة الترفيه، تستمسك صنعاء بما تطرحه تحت شعار قرآنيون – محمديون ويخرج شعبها بالملايين إحياء لذكرى المولد النبوي الشريف في نفس الليلة التي قتل فيها سعودي ثلاث فتيات في حفل راقص لهيئة الترفيه، أما استعدادها للتضحية ومواصلة القتال فحدث ولا حرج .
اللحظة ليست خليجية يا عبد الخالق ولن تكون!
في محاضرة للدكتور عبد الخالق عبد الله زعيم مفكري الإمارات، وواجهة نظام أبو ظبي رغم الإنكار قال إن اللحظة في المنطقة العربية في القرن الحالي أصبحت خليجية وأنها لحظة مستمرة على الأقل لخمسين سنة قادمة، وأن دول الخليج تتولى مسئولية الأمن في 16 دولة عربية، بعد تراجع مصر والعراق وسورية.
عبد الخالق لم يخطئ ولكن في إطار ما تفعله بلاده يوميا من كنز آثار الغير وإنشاء متاحف لها، بحيث ظهرت وكأنها تسرق التاريخ، ولم يخطئ لأن بلاده لم تحلم ولو بمجرد فتح باب للتفاوض على جزرها الثلاث المحتلة، وبدا الأمر وكأنه سرقة للجغرافيا ولو بتسويق فكرة غض النظر.
عبد الخالق يتكلم في بلده ويحاضر في بلده ويشترى مستمعين له أيضا في بلده ولو قال كلامه هذا في مدرج أولى اقتصاد وعلوم سياسية في أفقر مدينة عربية لما استطاع أن يكمل أول جملة منه، الغريب أن عبد الخالق الذي يبلغ عدد مواطني دولته 800 ألفا من بين 8 مليون مقيم، يعرف أنه مجرد واجهة في محل زجاجي يتحرك من خلفه العارضون والزبائن. عبد الخالق يمتلك المال، هذا صحيح. ويمتلك السلاح، هذا صحيح، ولكنه لا يمتلك الشعب المليوني الذى يصنع المقاتلين ولا العمق التاريخي الذى يصنع الحواضن الشعبية في لحظات الخطر، قد يستقوى بأمريكا ويستقوى بإسرائيل بل وروسيا والصين وإنجلترا ولكن كل هؤلاء لا يصنعون دولة قائد، ربما يخلقون نظاما أما دولة فلا.
ولو كلف نفسه عبد الخالق ونظر يمينا إلى جارته إيران لوجد قوة إقليمية كبرى صنعت نفسها تحت الحصار وقالت لأمريكا لا، أما إذا نظر يسارا فسيجد قوة عاقلة اسمها سلطنة عمان سويسرا الشرق وصديقة الجميع، بالتأكيد ليس على عبد الخالق أن يمد نظره أبعد من ذلك ولو إلى اليمن والتي ذهبت وفود من بلاده إلى إيران لتسترضيها حتى توحى إلى صنعاء بألا تقصف المدن الزجاجية.
قد تبدو اللحظة في نظر عبد الخالق خليجية من حيث التمويل وشراء السلاح، ولكن حتى هذه فشلت في سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولكن بعد خطاب السيد وتعقيب السيد، وعدم اكتراث العواصم العربية بما قاله عبد الخالق، أعتقد أنه فهم أو سيفهم أن البيئة الاستراتيجية تتغير في العالم العربي كله وخاصة في الجزيرة العربية، وأن اللحظة ليست خليجية مهما أنفقوا على ترامب وبوتين والملكة اليزابيث .