في منتصف ليلة الـ26من مارس 2015م أيقظتنا أصواتُ الانفجارات العنيفة، وهزّات القصف المكثف، على أنحاء مختلفة من مدينة صنعاء، ولما هُرِعْتُ إلى النت لأتعرَّفَ على هذه الحادثة الغريبة إذا بإعلان بداية العدوان ينطلق من واشنطن على لسان سفير السعودية هناك، بدعوى إعادة الشرعية، وفي الصباح حمَلتِ الأنباءُ أخبارَ مجازر وحشية طالت حيَّ (بني حوات) في شمال صنعاء، ثم توالتِ المجازر بشكل يومي ووحشي وعلى نحوٍ فظيع، وسرعان ما انبعثت أصوات دعاة ووعاظ البلاط السعودي الأمريكي بتبرير تلك الجرائم بكون الــيــمــنيين مجوسا، وروافض، ومنحرفين، وضالين، وهمُ هم الذين لم يطل بنا وإياهم العهد وهم يصرخون بالثناء على هؤلاء الــيــمــنيين وأنهم أهل الإيمان والحكمة، ومهد العروبة، ومدد الإســـلام.
لم تطُلِ الغرابة لديَّ من هذا العدوان، بحكم المعرفة التاريخية بجرائم هذا الكيان، وبطبيعة المهمة والدور المُوْكَلَيْنِ إليه من مشغِّله البريطاني أولا، ثم الأمريكي لاحقا، حتى أنني في وسائل النقل العام وبعض التجمُّعات كنت أطرح أن هذه الجرائم التي يرتكبونها ليست جديدة عليهم؛ إذ يجب أن نتذكّر جميعا (مــجــزرة تـنـومـة) ضد الــحُــجَّــاج، وأن هذه المجازر التي نراها بشكل يومي في صنعاء وغيرها قد بدأت من ذلك اليوم المشؤوم، غير أن المصيبة كانت في أن معظم الــيــمــنيين الذين أصادفهم لم يكونوا يعرفون شيئا عنها.
كانت مــجــزرة (تـنـومـة وساق الغراب) قد علِقت في ذهني منذ صغري بحكم حديثِ والدي حفظه الـلـه عنها، وهو الشغوف بالتاريخ، وفي عام 2012م لما حاوَلَتِ السعودية تلافيَ انفراطِ عِقد السلطة الموالية لها في الــيــمــن في ما سُمِّيَ بالمبادرة الخليجية، كان الثوار الــيــمــنيون في مواقع التواصل الاجتماعي وبالأخص الفيسبوك وفي المنشورات الورقية الثورية، يتناولون خطر السعودية على الــيــمــن، وكانوا يذكِّرون بين الحين والآخر بعدوانِها على الــحــجــاج في (تـنـومـة).
خلال 2014م كتبْتُ منشورا على الفيسبوك عن جرائمِ السعودية بحقِّ الــحــجــاج الــيــمــنيين، قلت فيه: «آلاف الــحــجــاج الــيــمــنيين تمَّ قتلُهم بدمٍ باردٍ من قبلِ جنود الملك عبدالعزيز الوهابية في ذي القعدة سنة 1341هـ .. مــجــزرة يكاد أن ينساها التاريخ ولا تجد لها إلا ذكرا يتيما»، ثم أوردتُ بعضا من تفاصيل تلك المــذبــحــة، وبعضَ الردود على الرواية النجدية حولها.
في الأشهُرِ الأولى من العدوان السعودي الأمريكي على الــيــمــن استشعرتُ ضرورة إنجازِ بــحــثٍ تاريخيٍّ عن هذه المــجــزرة الموءودة، تأصيلا لفظاعة ووحشية المعتدين تاريخيا، وبالفعل بدأتُ بجمع المعلومات، ولكنَّ صعوبات انعدام الكهرباء، وكثافة القصف، وإغلاق المكتبات العامة، أعاقتني إلى حدٍّ ما، وبطائقُ المعلومات التي كنت أجمعها لا زالت تذكِّرني هوامشُ بعضِها بأنني كنت قد كتبتُها ساعةَ قصفِ العدوان بالقرب من مسكَنِنا، وأنني كنتُ أكتُبُها وطفلي الحسينُ (حينها كان عمره 5 سنوات) يَرْتَعِشُ من الخوف في حضني، حيث كان لا يأمن إلا فيه، وكانت تجتاحني موجة شعور واحدة إزاء مجرم واحد، هو من ارتكب جريمة تـنـومـة أولا وجرائم 2015م وما بعدها آخرا.
وخلال عملية جمعِ المعلومات عن المجزرة اكتشفتُ أنها قضية موءودة، وذات مظلومية عظيمة، ليس من جهة المعتدين الذين أبادوا الشهداء بدمٍ بارد ظلما وعدوانا، ولكن منا نحن الــيــمــنيين الذين شاركْنا في دفن القضية أيضا ثقافيا وتاريخيا وتربويا بقصدٍ وبغير قصد.
كتبتُ خلال عامي 2015م و2016م مقالاتٍ منشورة حولها، منها: (الــيــمــن والسعودية بين مــجــزرة تـنـومـة 1923م ومجازر 2015م)، و(مــجــزرة تـنـومـة الموءودة تحت المجاملات السياسية)، و(مــجــزرة تـنـومـة بداية مجازر آل سعود)، و(مــجــزرة تـنـومـة .. جرسٌ مبكِّر للعدوان)، و(مرثاة السيد العلامة يحيى بن علي الذاري لشــهــداء تـنـومـة)، و(العدوان السعودي على حــجــاج بيت الـلـه الحرام)، وغيرها، كما شاركتُ بعددٍ من البرامج التلفزيونية والإذاعية حول تلك المــجــزرة.
كنتُ بعدها مدفوعا باعتقادي أهمية أن يعلَمَ كلُّ الــيــمــنيين بهذه المــجــزرة من أجل تكوينِ وعيٍ عميقٍ عن طبيعة هذا العدوان القائم، وأن يكون هذا الوعي جزءا من المواجهة الاستراتيجية لهذا الكيانِ المتوحِّش، وهو الأمر الذي شاطرني فيه كثيرٌ من الإخوة والزملاء والأساتذة.
وقد قُدِّر لتلك الكتابات والبرامج مني ومن كتَّابٍ وإعلاميين آخَرين أن تُشَارِك في رسمِ دائرةِ ضوءٍ جيدةٍ في الوعي الــيــمــني، لكنها لم تكن بالقدر الكافي، وكان من الأهمية بمكان أن شاطرنا الرئيسُ السابق علي عبدالـلـه صالح في لقائه مع قناة الميادين في 13/ 10/ 2015م بذكره المــجــزرة دليلا على حقد السعودية على اليمنيين منذ وقتٍ مبكِّر، على رغم أنه كان على رأسِ سلطةٍ حجَبَت الضوءَ لمدة 33 سنة عن تلك المــذبــحــة، ثم ما لبث بعدها في ديسمبر 2017م أن عاد إلى التحالف مع هذا المعتدي ضد أبناء شعبه الأحرار.
إن هيمنة السعوديين – وهم رأسُ حَرْبةِ الأمريكيين في المنطقة – على القرار السيادي والسياسي والتربوي والثقافي والاجتماعي في البلد طوال عقودٍ من الزمن كانت قد استفحلت بشكل مُرْعِب، إلى الحدِّ الذي جعل تناسي تلك المــجــزرة وغيرها من حوادث التاريخ النجدي الوهابي المُشِيْنِ من أهم الشروط التي يجب أن تتوفَّر في الأكاديمي والباحث والمؤرِّخ الــيــمــني، وإلا فإنه سيُحْرَمُ من الحصول على امتيازاتٍ كثيرة، أقلُّها المشاركةُ في المؤتمرات العلمية، والتاريخية، وستَحْرِمه (دارة الملك عبدالعزيز) من كرَمها الحاتمي الذي توزِّع نوالَه على كلِّ مَنْ يعملون معها في مغسلةِ تنظيفِ تاريخِه من الأوساخ والأقذار، والتي قليلٌ منها يكفي لأن يلوِّث التاريخ الإنساني من أوله إلى آخره.
لقد يسر الله إنجاز الطبعة الأولى من كتابي (مجزرة الحجاج الكبرى)، ونال استحسانَ المطّلعين عليه من أحرارِ هذا البلد، ومفكري هذه الأمة، فكتب كثيرٌ منهم المقالات والتعليقات، في الصحف، وفي مواقع التواصُل الاجتماعي، وأطلقَتْ بعضُ وسائلِ الإعلام المرئية والمسموعة برامجَ حولَ المجزرةِ والكتاب، وكان هذا أمرًا مُشَجِّعا ومُحَفِّزا للاستمرار في توثيق هذه المجزرة وتطوير الكتاب.
وخلال نشر الكتاب على شكل حلقاتٍ في صحيفتي (الثورة) و (صدى المسيرة)، كان السيِّدُ القائد سلام الله عليه أولَ من أرسل لاقتناءِ نُسْخَةٍ ورَقِيَّةٍ منه؛ بل إن أحد أعضاء مكتبه في صنعاء سألني: كيف للسيد القائد في صعدة أن يعلم أن هناك كتابا في طريقه إلى الطباعة، ونحن هنا في صنعاء لم نعلم بالأمر، فقلت له: الأمر ببساطة يعني أن السيد القائد قارئ ممتاز، ومتابع حثيث لكل جديد في الساحة الثقافة؛ ذلك الأَمْرُ أَشْعَرَني بوجوب الشكر لله على التوفيق والسداد، وبأهمية الكتاب وضرورة نشره، ثم ما لبث أن وجّه السيد حفظه الله بتحويل مادة الكتاب إلى فيلم وثائقي درامي، وهو الذي أنتجته شركة الدامغ في ما بعد بعنوان (تنومة دماء منسية).
لقد أحدث الكتاب منذ طبعته الأولى، وما تبعه من إصداراتٍ فنية اعتمدَتْ عليه، أثرا كبيرا في نشر مساحةٍ واسعةٍ جدا من وعي المجتمع حول المجزرة، وهو الأمر الذي تَوَخَّيْتُه – بتوفيق الله – منذ أولِ لحظة عزمْتُ فيها على إنجاز هذا العمل المبارك؛ فقد باتت أعدادٌ هائلة من مجتمعنا وأمتنا على علمٍ بهذه المجزرة وخلفياتها، ووعيٍ بمظلومية شعبنا فيها، في الوقت الذي أبدى العدوُّ السعودي وأذنابُه انزعاجا كبيرا إزاء هذا العمل كما ظهَرَ ويَظْهَرُ في كتاباتِ ذبابهم الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد قيل لي: إن الديوان الملكي السعودي نفسه قد انزعج من إثارة هذه المسألة انزعاجا كبيرا.
ثم أذيع فيلم (تنومة دماء منسية)، أنتجته شركة الدامغ، والإعلام الحربي، وهو الذي وجه السيد القائد سلام الله عليه بإنتاجه، وكان له أثرٌ بالغ الأهمية في توسيع مساحة الوعي بالمجزرة أفقيا، وكان له صدى واسعٌ؛ حيث بثته قنواتنا المحلية، وقنوات إقليمية تتبع محور المقاومة، بل وأقيمَتْ حوله النَّدَوَاتُ والنقاشات والحوارات في إيران وغيرها من دول محور المقاومة.
ثم تلى ذلك مسلسلٌ إذاعيٌّ متميِّزٌ بعنوان (تنومة الحقد الدفين)، أنتجَتْه إذاعة (سام إف إم) العام الماضي، وقد بُثَّ مرّتين، مرة في العام الماضي، ومرة في هذا العام في شهر رمضان، ويبث هذه الأيام أيضا، وكان صداه قويا ومُجَلْجِلا، وأثرُه كبيرا ومحمودا، وللأعمال الفنية المسموعة والمرئية تأثيرُها السريع، وسِحْرُها البديع، وجمهورها الواسع، ومساحاتها الشاسعة، وقد كانت أكثر قدرة وأوسع تأثيرا في تحويل قضية المجزرة البشعة إلى رأيٍ عام محلي وعربي وإسلامي بإذن الله تعالى.
إن هذا يعني أن دائرة الوعي اتسعت، وبالتالي أعطت خلفية عميقة لهذا العدوان السعودي الأمريكي على بلدنا، وعلى بلدانٍ عربية وإسلامية أخرى؛ إذ أقلُّ ما فيها أنها ستُسْقِطُ الذرائعَ التي يُطْلقونها اليوم تبريرا لنشاطاتهم العدائية ضد العرب والمسلمين جميعا، فلم يكن هناك في تنومة حوثيون يجعلهم آل سعود ذريعة لشن أسوإ عدوان إجرامي على هذه الأرض.
ومنذ ظهور الطبعة الأولى للكتاب وإلى اليوم، كان للندوات والفعاليات التي أقيمت حول الموضوع، ثم للقنوات والإذاعات والصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، وكذلك للكُتّابِ والإعلاميين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، جهدٌ مشكور في الكتابة عن المجزرة، والحديث عنها، وتوسيع دائرة الوعي بها، وبخلفيتها، ومآلاتها، وما الذي يجب على اليمنيين إزاءها؛ الأمر الذي يجعلنا نتوجّه إلى الله بقلوبٍ شاكرة، وألسنٍ ذاكرة، تشكرُه وتحمَدُه على عونه وتوفيقه وتسديده؛ إذ تحقّقَ كثيرٌ مما كنا نتوق إليه في هذا الموضوع.
واليوم في الذكرى المئوية الأولى للمجزرة يُسْعِدُني أن أقدِّمَ لليمنيين الأحرار، وللمجاهدين الأبرار، الطبعة الثالثة الجديدة والمنقَّحة من الكتاب، وهي متوفرة إلكترونيا في النت، وورقيا في المكتبات، وقد تم إضافة كمٍّ جيِّدٍ من المعلومات الهامَّة فيها؛ حيث بلغ عددُ الشهداء المُتَرْجَمِين فيها 117 شهيدا، بإضافة 63 ترجمة جديدة عما في الطبعة السابقة لها، وبلغ عدد تراجم الناجين 41 ناجيا، بإضافة 13 اسما وترجمة، كما أضِيْفَتْ فيها قصيدتان معاصِرتان للحَدَث، أنشأهما أبرزُ رجالِ ذلك العصر، بالإضافة إلى ثلاثة قصائد أثبتت في الطبعتين السابقتين، وتم إضافةُ وثيقة هامة متعلّقة بالحدث، عليها إمضاءُ الإمام يحيى حميد الدين، ووُضِعَت صورة منها في المُلْحَقات، وأفاد منها البحثُ أيَّما فائدة.
إن هذا يعني أن مساحة الوعي بهذه المظلومية تتسع عاما بعد آخر، وأن عجلة التوعية بهذه القضية الموءودة يجب أن تستمر، ويجب أن يشارك اليمنيون مشاركة فاعلة وقوية في إحياء الذكرى المئوية الأولى التي تصادف الأربعاء القادم 17 من ذي القعدة 1441هـ الموافق 8 يوليو 2020م، وهو أمرٌ له أهدافه السامية، ونتائجُه الإيجابية التي سنتحدث عنها في الحلقة القادمة.
… وللموضوع بقية.