تتعالى الأصوات المناهضة لتوجهات الرأسمالية المتوحشة على المستويين المحلي والعالمي، ولعل تلك الأصوات الأكثر جرأة هي التي تخرج في دول رأسمالية تعمل جاهدة لاستغلال الشعوب تحت عناوين متعددة أهمها مساعدة الشعوب في أوقات الأزمات أو الكوارث سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان.. و” انتوني لوينشتاين” هو أحد الذين أخذوا على عاتقهم مقارعة الرأسمالية وفضح ما يدعيه من يتعربعون على عرش قيادة العالم.
سعيد شجاع الدين
اللافت أن هذا الصوت هو لصحافي، ونحن نتفق معه ، في رؤيته أو تقسيمه للصحفيين حيث يقول: “قليلون هم الصحافيون الذين يطالبون بالشفافية أو يتصدون للرأسمالية، مفضلين بدلاً من ذلك العمل بشكل مريح في إطار منظومتها”.. وهو أي مؤلف الكتاب ضد ” الصحافة المدمجة”، التي هي نوع من الأداء وقعت به الحكومات والمؤسسات العسكرية بعد هجمات 11 سبتمبر تمكن من زرع إعلام ينظر إلى زعماء الأعمال والسياسة على أنهم أكثر أهمية بكثير من الأفراد والمجتمعات المتأثرة بهم”. ويأتي كتاب ” رأسمالية الكوارث” لمؤلفه ” انتوني لوينشتاين” ترجمة عربية: أحمد عبدالحميد وإصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، ليضع أمامنا الأدلة الدامغة على حقيقة ما يجرى لمعرفة كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحاً طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية”. وهذا السؤول هو عبارة شارحة وُضعَت~ تحت العنوان الرئيسي. أو هو السؤال الذي يسعى الكاتب، للإجابة عنه كما توضح صورة الغلاف التي حرصنا على تثبيتها لكني تكون العتبة التي تأخذ القارئ إلى عالم نقلته تجربة صحافي أسترالي بدا اكثر حرصا على توثيق ما يدعيه من خلال اعتماده المباشر على أعمال متنوعة تصب كلها في خدمة فضح الرأسمالية وزيادة الوعي العالمي بأخطارها. وعن الكتاب يقول مؤلفه “هذا الكتاب ترياق .. فهو مساهمتي في المعركة المستمرة ضد الصمت والتواطؤ في عالمنا لما بعد 11 سبتمبر . لأن وراء القصص الصادمة.. ترقد سرديات أخرى نعمد إلى تجاهلها على نحو روتينى. إن آثار السياسات التي تصاغ في العواصم الغربية لها تداعيات واضحة بالنسبة للمواطنين في جميع أرجاء العالم”. أما عن التسمية أو إطلاق مصطلح” رأسمالية الكوارث” فالمؤلف يلفت الانتباه إلى أن الصحافية الكندية نعمومي كلاين، هي أول من صاغ مصطلح ” رأسمالية الكوارث” في كتاب لها بعنوان ” عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث”، صدر في العام2007م وحقق مبيعات عالية. ويبدو أن كلاين أثرته كثيراً نظرا لتجربتها في هذا الجانب. يقول ” دأبت على قراءة مؤلفات كلاين منذ أن صدر لها في العام 1999م كتابها ذائع الصيت الذي حقق نجاحا باهرا وعنوانه ” لا شعار” وهو الكتاب الذي تحدى فكرة الرأسمالية العالمية المحررة من القيود، ووثق المقاومة المتنامية لها ” . كما يضيف عن كلاين في أستراليا ” وتحدثت في أستراليا في مطلع العام 2000م حيث وجدت الحجج التي ساقتها صداها في نفسي. فقد فضحت كلاين المظالم العالمية ولكن بدلاً من مجرد هجومها على المخطئين من الأفراد والجماعات أخذت انتقادها إلى مدى أكثر عمقا يشمل المنظومة الاقتصادية ذاتها. جادلت بقولها علينا ملاحقة النقود”. وفي أزمة المناخ ما يبين سبب إعجابه بكلاين التي كانت حاضرة في أزمات عديدة مثل ” تداعيات الإعصار ساندي الذي ضرب ولاية نيويورك في العام 2012م مخلفاً فيها الدمار والفوضى. كتبت كلاين عن كيفية حماية الأغنياء انفسهم من الآثار الأقل لذة للنموذج الاقتصادي الذي جعلهم في هذه الحالة من الثراء الفاحش “. أما في كتابها لعام 2014م وعنوانه ” هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ” تجادل كلاين- والكلام للمؤلف – بأنه.. دون اتخاذ إجراء جاد من شأنه الحد من الانبعاثات الغازية العالمية، فلن يعود ثمة وجود للعالم الذي نعرفه ونحبه هنالك قوى هائلة تدفع في اتجاه الحفاظ على الوضع الراهن، وهي تلك القوى التي تجني المال من ضخ الاستثمارات في الطاقة..
شهادة أخرى يسجلها المؤلف وتقوي صوته في المواجهة المفتوحة التي اختارها لمجابهة الرأسمالية: إنه يتفق مع بيل مكين عالم البيئة الأمريكي، الذي يقول ” بالنسبة إلى الشركات التي تسبب الأضرار البيئية العالمية، لعل من الحيوى إظهارها للعيان، ليكون الربح المفاجئ الذي صدر في العام 2014م للصحافي الأمريكي مكنزي فانك تأكيداً على حقيقة النظرة لإدراك أنه حين تكون واقعاً على أرض مرتفعة ثريا بما يكفي وشمالياً بما يكفي وبعيداً بما يكفي فوق البحر عندئذ، فإن الاحتباس الحراري لن يمثل تهديداً وجوديا كما هو الحال بالنسبة لمصري أو أحد سكان جمهورية جزر مارشال أو استاتين ايلاند”. ولا زلنا في المقدمة ومع الكاتب حيث نحدد المرتكزات الرئيسية لعمله بما يعطيه المصداقية وقوة الحضور. لنستمع إليه أو نقرأه وهو يتحدث باستفاضة عن مشروعه ، يقول: “إن تعريقي لكلمة “كارثة” قد اتسع لكي يتضمن شركات ترسخ أزمة ما وتحصنها ثم تسعى إلى ترويج نفسها باعتبارها الوحيدة التي لديها الحل لهذه الأزمة”. أي المخرج الذي يقود إلى النتيجة المؤدية إلى النتيجة النهائية، وستظل عاملاً محكوماً بأسواق لا تخضع للمساءلة “. إنه يتحدث أو يشير إلى الخصخصة في قوله ” وعلى ذلك نجد أن قطاعات مثل الموارد ومراكز الاعتقال ما هي إلا أحدث حلقة ضمن سلسلة طويلة من الأصول والمؤسسات التي أمكن استخدامها كأدوات للقوة الخاصة غير الخاضعة للمساءلة. وفي سبيل الوقوف على ما هية الخصخصة يقول: ابان السنوات العشر الماضية، وجدت نفسي في بعض أكثر الأماكن تحدياً على كوكب الأرض، وأقنعتني الأدلة التي رأيتها بأم عيني بأن اضطلع بهذا المشروع ان أزور مجموعة الدول التي كانت مواقع الخصخصة الجامحة والتمييز الصارخ. وبصفتي صحفياً وناشطاً أؤمن بأن الشهادة لما أراه، وإعطاء اللاعبين غير المتكافئين الحق في الرد من شأنها الإسهام في تحقيق بعض التوازن في النقاش الدائر حول الخصخصة..
وسنكتفي بما جاء في الفصل الثالث، عنوانه ” هايتي: إن قال أحد هنا أنهم حصلوا على مساعدات فتلك أكذوبة”
هايتي نموذج يطرحه الكاتب أمامنا ليؤكد من خلاله على حجم الكارثة ولأننا لن نستطيع أن تأتي بكل ما كتُب، من منطلق أن كل فكرة أو نقطة تحدث عنها المؤلف هي بحد ذاتها كافية لمناقشتها. وأيضا صعوبة الانتقاء في عرض المحتوى الذي يبين ما يحدث في هذه الدولة ولهذا فإننا سنكتفي بالتركيز على الأطراف التي تتقاطع فيها بينها لتجعل من هايتي مثالاً لما يحصل، نتيجة إفساح المجال للقوى الدولية الطامعة إلى تحقيق مآربها. وعلى هذا تكون هذه الأطراف هي:
أولاً: دولة هايتي بما تمثله من حضور على الخريطة العالمية فهي ” أول دولة عبودية في التاريخ تطيح بحكامها بنجاح وشهد شهر فبراير 1794 إلغاء الحكم الاستعماري الفرنسي، وفي العام 1840أصبحت سان دمينوس دولة هابيتي المستقلة ” صـ 138. وعاشت هايتي مرحلة السيادة التي أستمرت إلى 1915″ عندما غزت الولايات المتحدة الأمريكية البلاد واحتلتها لتمهد بذلك الطريق لتنصيب الدكتاتور فرانسوا دوفاليه “، وأدت الدكتاتورية إلى محاولات متكررة للثورة، إلا أن تأثير النفوذ الأمريكي هو المتحكم في جعل كفة الميزان لصالح المصالح الأمريكية، إذ كانت أمريكا ” تنظر إلى هايتي باعتبارها مخزونا احتياطيا للقوى العاملة الرخيصة، وفي العصر الحديث تتمثل المهمة في كيفية تجويع الفلاحين حتى يمكنهم التدفق إلى المدن.. بالآلاف بدلاً من مزارع قصب السكر “. وأضاف المؤلف أن وثائق سربها موقع ” ويكلكس” العام 1013م بينت أن واشنطن زادت من مبيعات الأسلحة إلى حاكم البلاد وهي أسلحة كانت تستخدم في النهاية ضد المدنيين.. صـ 140..
وأيضا دبلوماسي أمريكي في سبعينيات القرن الماضي كتب عن هايتي يقول: “القمع قد خفت حدته”. ويذكر أن الجيش الذي كان متهماً بقمع شعبه قد تحسنت صورته، وأنه يجب أن يتلقى تدريبات سوف تسهم في رعاية المصالح الأمريكية والحصول عليها. وقد بقي هذا هو واقع البلاد خلال العقود التي سبقت حدوث كارثة الزلزال الذي ضرب هايتي 2012 واستمر ثلاثين ثانية وخلف دماراً. كما أن طموح شعب هايتي، وعمله في أثناء تولي الحكم قادة وطنيون أمثال اريستيد، جعل البلاد مطمعاً لقوى الاستعمار. وفي هذا الشأن يقول المؤلف: “إن الحكومتين الفرنسية والأمريكية اللتين لم تكونا قط سعيدتين إزاء احتمال منح استقلال حقيقي لهايتي قد عقدتا العزم منذ زمن طويل على استعادة قيادة أكثر إذعانا لهما في العاصمة وكانت هنالك حدود حول المكاسب التي يمكنهما الحصول عليها، ولعل أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبها اريستيد على الأقل من وجهة نظر أسياد بلاده السابقين هو مطالبته فرنسا في العام 2013 بسداد مبالغ هائلة من المال استولت عليها زوارق حربية فرنسية في العام 1825 مقابل خسائر تكبدتها من ممتلكات استعمارية. ووفقا لتقديرات مسؤولين هاييتين تعادل هذه الأموال اليوم ما يصل إلى 21 مليار دولار . وقاحة مثل هذه في بلد كان مستعبداً فيما مضى لا يمكن تغتفر” صـ 142.
يبلغ عدد سكان هاييتي حوالي عشرة ملايين نسمة نصفهم دون سن الخامسة والعشرين وتمتلك ما قيمته مليارات الدولارات من الفضة والنحاس والزنك شمال البلاد.
ثانيا: الأمم المتحدة.. يشير الكاتب إلى أن حضورها الفعلي في أعقاب الزلزال 2010، وتتهم بأنها المتسبب في إدخال وباء الكوليرا إلى البلاد والذي تسبب في وفاة 9آلاف من أصل 712 ألفا أصيبوا بالمرض، وتفاصيل هذه الواقعة تؤكد بأن الجنود النبيالين التابعين للأمم المتحدة هم من جلب المرض ويشهد على ذلك ما كتبت الصحافية الأمريكية ” ديبور سونتاج” التي أثبتت تورط الأمم المتحدة في المشكلة ليتضح فيما بعد أن أداء هذه المؤسسة الدولية لم يكن بالمستوى المطلوب، في العام2013 لم تستطع.. جمع الربع من مبلغ 38مليون دولار كان مطلوباً لشراء حبوب تنقية المياه ومستلزمات صحية أخرى.
ومن المؤسسات التابعة للأمم المتحدة ( الصليب الأحمر) وعنه يقول المؤلف صـ 398: ” الصليب الأحمر كان أكبر متسلّم لأموال المساعدات لهايتي من المواطنين الأمريكيين على رغم أن سجله في مجال الشفافية الخاصة بعمله لم يكن مرضيا إلى حد كبير. فعلى سبيل المثال أدعى في منشور أصدره في العام 2015 أنه قد ساعد 132 ألفا من الهايتين على العيش في ظروف أكثر أمنا منذ زلزال 2010 بيد أن خبراء هايتي في مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية قد أبدوا شكوكهم بشأن صحته.
برنامج الغذاء العالمي: أشار المؤلف إلى هذه المؤسسة الدولية التابعة للأمم المتحدة في سياق حديثه عن ما شاهده في مخيمات إقامة السكان المتضررين من الزلزال. وعن هذه المخيمات وتأثرها برأسمالية الكوارث يقول المؤلف :” هذه المخيمات كانت إدانة قاسية للمنظمات غير الحكومية والحكومة في هايتي كل من تحدثت إليهم في سوبيست (العاصمة) بدوا محنكين سياسيا غير أنهم لم يتفوهوا بأي كلمات طيبة نحو الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية الأخرى، وقال بعض الأشخاص أنهم كانوا يريدون أن تغادر هذه المنظمات هايتي لأنها لم تكن تعرف ما تفعله هنا عدا ترسية العقود التي تمكن شركات مختلفة من تحقيق الربح ” صـ178.
المبالغة في الأرقام
يرى المؤلف أن النادر وجود شخص في الداخل ( في مجال المساعدات) في هايتي ويتحدث أيضا بانتقاد عن عملية المساعدات كان من النادر العثور عليه، لكن عالم الانثربولوجيا الأمريكي يتموثي شفارتز كان هو ذلك الشخص صـ 178 هذا الرجل – كما يقول المؤلف – عمل في هايتي وجمهورية الدومينكان، وأيضا جمهورية الكنغو الديمقراطية في الوقت نفسه، وكان يكتب التقارير للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وكان محبوبا ومكروها بشكل متبدل، بسبب فضحه لادعات الوكالة والمنظمات الدولية. يقول المؤلف عنه ” لقد أجرى تحقيقا حول حصيلة الوفيات في كارثة زلزال العام 2010 أدعى أنها كانت بالفعل أقل بكثير من الرقم المزعوم ووفقا للتقديرات في ذلك الوقت كان الرقم الرسمي للوفيات أكثر من 300 ألف شخص غير أنه قال أن الرقم الحقيقى كان يتراوج بين 50 ألف شخص و80 ألفاً وزعم أنه قد جرى تضخيم أعداد الوفيات من أجل كسب المزيد من الدعم الدولي “179”..
الهدف من المبالغة هو الحصول على الأموال لحل مشكلات لم تكن بذلك الدرجة من السوء، وأعطى مثالاً” تقارير تدعي أن عبودية الأطفال كانت مشكلة ضخمة ” و” السبب وراء القيام بهذا العمل كان أجتذاب أموال المانحين الغربيين، والتي أستغرقت بعد ذلك في دفع الرواتب المفرطة وبدلات نقدية أخرى ” و يلخص المؤلف إزاء هذه الحالة إلى القول” وهذا الافتقار إلى المسؤولية لدى المنظمات غير الحكومية ترك تأثيره في كل دولة زرتها أثناء جولتي الصحافية لاستقصاء رأسمالية الكوارث صـ 179..
إغراق البلاد بالمساعدات الغذائية
يقف المؤلف عند هذه النقطة، حيث إن الجهد الحكومي كان منصباً لعمل الكثير من أجل الاستفادة من حادثة الزلزال خدمة للمواطن، وضرب مثالاً على ذلك وعلى لسان شفارتر ” لم تكن هناك لحظة أفضل لديهم لكي يخطوا خطوة إلى الأمام لشراء الفائض الزراعي وجلبه إلى بورث أو برنس العاصمة لكن المجتمع الدولي أغرق البلاد بالمساعدات الغذائية، ليس لمدة شهر فقط، ولكن بكميات تكفي للسنوات المقبلة . أعاد برنامج الغذاء العالمي تحويل مسار الغذاء إلى برنامج صحة الطفل الخاص بالأمهات ” صـ 179. يذكر المؤلف في الهامش تعقيباً على ما طرحه شفارتز قائلاً: ” ألف شفارتز كتاباً مؤثراً بعنوان ” الصورة الزائفة في هايتي تفاصيل عن كيفية إهدار أغلبية المعونات الأجنبية ، ويضيف المؤلف وهو في كتابه هذا، أي شفارتز، يقول: وهو يقول في كتابه هذا ” الأعمال الخيرية يُتلاعب بها لخدمة غايات سياسية إذ يسمح غياب المساءلة بتشويه المساعدات وتحويلها إلى شيء يمكن القول بأن ضرّه أكثر من نفعه ” صـ398..
ضياع سيادة هايتي
ينقل المؤلف عن شفارتز مبرراً موقف الحكومة حين أشار إلى أن سيادة هايتي ضاعت في اليوم الذي ضرب فيه الزلزال البلاد.
يقول: قال لي ماذا تفعل حين تجد دولة كهذه وهي تغمر بكل هذا النوايا الحسنة والمساعدات السخية؟ هل ستقف على قدميك لتقول: “لا”؟ لأنك لو فعلت ذلك ستكون ضد الفقراء ، والضحايا، والناجين من الزلزال، لقد قابلت كبار موظفي برنامج الغذاء العالمي هنا بعد مرور عام على الزلزال، وقلت أنه ليس ثمة حاجة إلى كل هذا الطعام . ببساطة، راح الجميع ينظرون إلى الأسفل، وأعتقد بصراحة أن كل هؤلاء الأشخاص مخلصون، وهم لم يفهموا شيئاً بالفعل وكانوا يحصلون على معلومات من الصحافة أو من أناس على الأرض، وأحد الأشياء التي تحدث هنا في هايتي هو سماع (صيحات) “أعطني المزيد ” بداية من المزارع إلى الفرد في المدينة، مروراً بالسياسي والمنظمات غير الحكومية. تلك هي الصناعة، وحين يتعلق الأمر بكتابة تقرير للمنظمة غير الحكومية فالجميع يفعل ما يجب فعله. أن تصور الأمور بشكل ملائم وتقول إنها ناجحة، فأنت لا تستطيع تقديم تقرير عن جهة مانحة وتقول عن شيء ما أنه كان فشلاً مروعا وإننا أهدرنا كل هذه الأموال “.. صـ 180
في الداخل تتكشف الحقيقة
بعيداً عن العنوان العالم للفصل الخامس من هذا الكتاب فإننا سنلقي بأنفسنا ليس إلى التهلكة، التي تصنعها الحقيقة الصادمة المتعلقة بحياة مئات الآلاف بل الملايين من الناس الذين اضطرتهم الظروف للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية في عصر ” عمى الأولوان”، بل سنلقي بأنفسنا إلى حيث يقيم ضمير العالم الحي، إن كان موجوداً، فما عساه أن يفعل؟ هل سيرفع عقيرته داعياً كل من يهمهم الأمر للمسارعة لكبح جماح آلة الموت الأمريكية، أو على الأقل نتفق وأنتوتي لونشتاين في رحلته التي تقودنا إلى أمريكا ليؤكد النبأ بأن ” أرض الأحرار صارت دولة السجون ” وهذا هو عنوان فصل ” أمريكا” أو ” الولايات المتحدة”. وإن كنا نرى أنها أتّحدت على صناعة الظلم، قهر الإنسان و… لن نقول إلى آخره، فالقول هنا ليس له مدى، فـ” هيومان رايتس ووتش”، والخطاب موجه لمن يجدون في تقارير المنظمات الدولية جانبا من الحقيقة، ففي صـ237، من ” رأسمالية الكوارث” أشارت ” في العام 2014 إلى أن ” أرض الأحرار قد صارت دولة السجون ” وذلك – والكلام للمؤلف- تقرير أصدرته أوجز العدد اللامعقول من الأمريكيين ممن يواجهون عقوبة السجن بسبب ارتكابهم جريمة/ جرائم صغيرة وجرائم غير عنيقة، ووفقا لتقرير كاتب صحفي أمريكي مشهور في مجلة ” نيوبوركر” فأن ” العدد الذي كان في قبضة نظام العدالة الجنائية من الأمريكيين السود- في السجون وتحت المراقبة أو على أساس الإفراج المشروط- كان أكثر من ذلك العدد الذي كان موجوداً في زمن العبودية 1850. وبصورة شاملة، فإن عدد الأشخاص الذين بخضعون لنظام” الإشراف الإصلاحي” في أمريكا- أكثر من ستة ملايين- هو أكثر من ذلك الذي كان موجوداً في أرخبيل الغولاغ في أوجه تحت حكم ستالين”..
ولمزيد من التوضيح، فإن الكلمات المعبرة تنتقى بعناية، لتعطي الدلالة المتوخاة، ومع ما جاء في صـ 232 من تأكيد المؤلف حيث يقول: ” والحقيقة أن الأسباب الكامنة وراء الهوس الأمريكي تجاه عقوبة السجن ليست غامضة بالمرة، إذ كان السياسيون بخشون من النظر إليهم على أنهم يتعاملون ” بليونة مع الجريمة” وهو تخوف أثارته الصحافة النصفية ( التابلويد) التي كانت تهلل لإصدار أحكام قاسية ضد السجناء، وكانت الهجمات على الفقراء والمحرومين قد توافقت بدقة من الشعبية التي حظيت بها العقوبات الأدنى الإلزامية الطويلة وقوانين ” الضربات الثلاث” التي أدت إلى سجن أشخاص مدى الحياة لسرقة قطعة شوكولاته”.
ومع هذه الحقيقة نختتم رحلة المؤلف التي أخذت عدداً من الصفحات (235- 275) من الكتاب، وهو عدد معقول بالنظر إلى طبيعة المأساة، مأساة المواطن الأمريكي ولابد أن نعود إلى مستهل هذا الفصل ومع ما جاء ” تحبس أمريكا نسبة من سكانها في سجن كبير، تعد الأعلى بالمقارنة مع أي دولة في العالم. فهي تعكف على تشغيل نظام يتسم بشيطنة ووصم الأمريكيين الأفارقة والمهاجرين على نطاق غير مسبوق أشبه ما يكون بتجربة اجتماعية في مجال السيطرة على السكان”، سيطرة لا تمنعنا نحن ( خارج حدود أمريكا) من أن نضع أمام القارئ ما لا نراه مناسباً في بلد لا يشبه أمريكا، وهي مما في الكتاب:
– بعض الولايات مثل جورجيا أبرمت تعاقدات خارجية حتى لعمليات قتل السجناء.
– جورجيا هي الولاية التي لديها أعلى نسبة من البالغين الخاضعين للسيطرة الإصلاحية في البلاد وقد زاد معدل الاعتقالات لديها من المهاجرين ما بين العام 2007 والعام 2013بنسبة 953% وكان الأشخاص من ذوي البشرة الملونة مستهدفين بشكل غير متناسب.
– ولاية لويزيانا عاصمة السجون على مستوى العالم منذ العام 2012.
– استخدمت “الصناعات الإصلاحية في ولاية واشنطن” نزلاء السجون عمالا لصنع الملابس والأثاث.. بتقييد السجناء بسلاسل إلى مقعد.
– الأطفال دون سن الثمانية عشر عاما يخضعون للحبس الانفرادي في العديد من الولايات الأمريكية .. وقد كشفت دراسات عن العذاب البدني والعقلي .. الذي كان يمارس في مؤسسات عقابية وعامة على السواء.
– كان يطلق على باراك أوباما لقب “رئيس الطاردين” بسبب العدد القياسي من المعتقلين ابعدتهم إدارته قسرا من البلاد .. ووجدت صحيفة “نيويورك تايمز” أن ثلثي المهاجرين الذين ابعدتهم إدارة أوباما قد ارتكبوا مخالفات بسيطة وذلك من قبيل المخالفات المرورية.
– النظام في السجون متلاعب به ليفيد شركات مثل “سي سي أيه” وهناك أمثلة أكثر مما يمكن الاستشهاد به لإظهار عدم استعداد الشركة لفرض الحد الأدنى من معايير الرعاية .. إذ دأب مركز الاحتجاز “آي سي آي” ووزارة الأمن الداخلي على رفض التحقيق في انتهاكات مستمرة.. ومن ثم انفضت قضايا دون عقاب، وكانت تتضمن حالات ولادة لسجينات قبل الموعد المحدد للوضع، لأن حراس شركة “سي سي أيه” قد تجاهلوا صرختهن طلبا للمساعدة، فضلا عن إعطاء أدوية غير صحيحة للنزلاء.. مما يسبب الوفاة.
تأليف: أنتوني لوينشتاين- ترجمة أحمد عبدالحميد