قبل ست سنوات تقريبًا كان المقاتل المرتزِق يرى في معسكرات العدوّ السعودي ملاذَه الآمنَ، معتقداً أن مقاتلي الجيش واللجان الشعبيّة لن يصمدوا طويلاً أمام هذا العملاقِ الماردِ المزوِّدِ بأحدث الطائرات الحربية والدبابات والصواريخ والمسنود بإمبراطورية إعلامية كبيرة، وبمجتمع دولي يدعمُ كُـلَّ تحَرّكاته.
جميع القراءات والتحليلات والتوقعات بالفعل كانت تشيرُ إلى أن هزيمةً ساحقةً ستلحَقُ “بالحوثيين” وكل من ساندهم، وأن النتيجةَ الحتميةَ لهؤلاءِ ستكونُ الملاحقةَ والزجَّ بهم في السجون أَو سحلَهم في الشوارع، وتعليقَ قياداتهم على المشانق، وربما كنا سنشهدُ ما هو أبشعُ وأسوأُ من هذا السيناريو.
نقول هذا؛ لأَنَّ الوقائع والأفعال تشهدُ على دناءةِ وخسةِ العدوِّ والمرتزِقة في تعاملهم مع الآخر، ولقد سمعنا قصصاً مأساوية للأبطال خلال مكوثهم في الزنازين المظلمة في سجون المرتزِقة بمأرب وعدن وتعز وغيرها، ولا يزال الكثيرون يعانون الأمرَّين إلى الآن، وآخرها ما حدث للأسير الشهيد اليوسفي الذي استشهد جراء التعذيب الوحشي في سجون المرتزِقة في تعز، ناهيك عن المعاملات السيئة للمدنيين في المناطق التي يسيطرون عليها، ومعاملاتهم في ما بينهم، وقتالهم العبثي في تعز والمحافظات الجنوبية المحتلّة.
لكن الصورةَ مغايرةٌ تماماً في صنعاء وللقيادة السياسية والثورية وللجيش واللجان الشعبيّة، فهم يتعاملون بأخلاق وإنسانية مع الطرف الآخر، ولم تصدر منهم أيةُ أفعال تدُلُّ على التوحش والخسة، بل ظهرت الكثيرُ من المقاطع لهم وهو يتعاملون برأفة وإنسانية مع الأسير أثناءَ المعركة، ويبادرون في تقديم الماء وَالعلاج للمصابين، في مشاهدَ تثبت أصالةَ هؤلاء المقاتلين الذين يحملون مشروعاً إنسانياً ووطنياً وقضية محقةً يقاتلون مِن أجلِها، وما أشرفَها من قضية حين يكونُ عنوانُها “الدفاعَ المقدَّسَ عن الوطن” ومواجهة الغزاة والمحتلّين.
والواقعُ أن العدوَّ بات على درايةٍ كافيةٍ بأخلاق المجاهدين، وهذا ما لمسناه من خلال العودة الكبيرة للمقاتلين المغرر بهم إلى صنعاء وإعلان توبتهم وندمهم في مواجهة أبطال الجيش واللجان الشعبيّة واستعدادهم للقتال مجدّدًا، لكن هذه المرة ليس في صف الباطل وإنما ضده.
ولقد كانت القيادةُ موفقةً حين أتاحت الفرصةَ لكل من خان وطنه بالعودة وإعلان الندم، لكن إذَا كان هذا ندما حقيقيا نابعا عن شعور بالذنب، وتوبةً حقيقيةً بعدم العودة للخيانة مجدّدًا، مع ضرورة حذرنا من أن يكونَ في صفوف هؤلاء العائدين مندسون يعملون لصالح العدوان ويضربوننا من الخلف، ولعل القيادةَ السياسية والثورية تعي هذه النقطة جيِّدًا.
سيظلُّ الصمودُ في وجه العدوانِ على اليمن واحداً من المعجزات التاريخية المعاصِرة، فالشعبُ اليمني بقلة عُدته وعتاده استطاع هزيمةَ مشروع الاستكبار الأمريكي السعودي، ورماد الحرب ارتدت إلى عيونِ بن سلمان وهادي الذي خرج هارباً وكان ممتلئاً بالنشوة مع قيادات المرتزِقة بالعودة إلى صنعاء وهم يحملون بشائرَ الانتصار، باتوا اليومَ على قناعةٍ كبيرةٍ بأن صفحتَهم ستُطوى إلى أبدِ الآبدين، وقوافل المقاتلين الذين كانوا يتدفقون بالمئات إلى معسكرات العدوان في البداية، ها هم يعودون خائبين ونادمين لما عانوه من اضطهاد وظلم خلال السنوات الماضية، ويرَون في صنعاء الحريةَ والكرامة والعزة، وصنعاء التي كانوا يتوقعون دخولَها في غضون شهر أَو شهرين أضحت بعيدةً عليهم من عين الشمس، ومأرب التي كانوا يتوقعون أن تظل عاصمتَهم الأبديةَ على وشك أن تتحرّر.
إن ما حدث بالفعل يفوقُ كُـلَّ التوقعات، ووحدَهم المجاهدون الأبطال الأحرار من الجيش واللجان الشعبيّة الذين كانوا يؤمنون بانتصارِ القضية وهزيمةِ الأعداء.. وما أحلاه من حلمٍ حين تجلسُ إلى جوار أحدِهم ويعطيك تفاؤلاً كَبيراً بأن تحريرَ بيت المقدس سيكونُ على أيديهم.. وما ذلك على الله بعسير.