كان اليمنيون أمام خيارَينِ عندما أتى العدوانُ الأمريكي السعوديّ بكل قبحه وغطرسته سنة 2015:
فالأولُ: هو الانكفاءُ والبقاءُ في المنازل، وتفضيلُ لُغة الصمت، والخضوع، دون النظر إلى عواقب ما ستؤول إليه الأمور، في حين كان الخيارُ الثاني هو نفضُ غبار الذل، والانبطاح، والانطلاق إلى ميادين القتال والمواجهة مهما كانت التحديات والعقبات التي تقف أمامهم.
وحدَهم الأبطال من سلك هذا الطريق رغم وعورته، ووحشته، وغربته، ووحدَهم الذين رووا ثرى الوطن بدمائهم الزكية، ووحدَهم من تقطَّعت أجسادهم إلى أوصال صغيرة، دون السماح لجحافل الغزاة باحتلال الأرض وانتهاك العرض؛ فالشهادة لهؤلاء الأبطال هي أصالة وتكامل وسمو، وهي مسؤولية كبرى وصعود من أقصر الطرق إلى معارج الإنسانية.
نحن الآن في يمن شامخ، له حضوره القوي في المنطقة، وهيبة لم يشعر بها من قبل، كُـلّ ذلك بفعل تضحيات الأبطال الشهداء الذين كانوا صخوراً صماء تحطمت عليها مؤامرات الأعداء، ومعول الهدم الذي كان لدى الأعداء تكسر في أيديهم، ولم يتمكّنوا من اختراق الجدار اليمني؛ بفعل جهاد المؤمنين الذين تواجدوا في كُـلّ الميادين، في الجبال والسهول والصحاري وغيرها، حاملين على أكتافهم أسلحتهم الشخصية، وفي قلوبهم هَــمَّ الوطن، والإيمان الكبير بأهميّة الشهادة، وعظمة التضحية في سبيل الله.
القتال في سبيل الله ليس خاتمة تراجيدية أَو مأسوية، بل هو شرف لا يضاهيه أي شرف، وكرامة من الله لا ينالها إلا من ارتضاه الله، وأحبه، ثم أن الشهداء ليسوا من أصحاب الأطماع الدنيوية، ولم يكن ذهابهم إلى الجبهات للحصول على أسلحة أَو مناصب أَو ليقال إنهم رجال أبطال، وهم بالفعل كذلك، وإنما لأنهم عرفوا حقيقة هذه الدنيا، وقيمة اليوم الآخر، والثناء والأجر الكبير الذي سيحصلون عليه في الجنة؛ ولهذا سارعوا إلى مغفرة من الله ورضوانٍ، وفازوا بما كانوا يتمنونه، وهنيئاً لهم هذا الأجر الكبير؛ فالشهيد هو قلب التاريخ النابض بالحياة، وكما يهب القلب الحياة والدم للشرايين اليابسة تكون الشهادة دماً يجري في شرايين المجتمع، والشهداء هم الذين يضيئون ملامح الأمل الجديد في دجى اليأس المطبق، وهم الذين يعيدون الحياة لوطن تترصده المخاطر من كُـلّ جانب.
التراجيدية المحزنة والمشينة، هي لأُولئك الذين سلكوا طريقاً آخر، غير طريق الشهادة، إما بالقتال مع صفوف المرتزِقة والغزاة، أَو بالانزواء في المنازل تحت يافطة “الحياد”، وأية مأساة حينما يُقتَلُ مرتزِقٌ حقير على أطراف العاصمة أَو على أبواب مدينة يسعى الأعداء لاحتلالها، إنه بالفعل الخسران المبين.
سنظل نفخر بكل الشهداء الأبطال؛ فهم رموز مقدسة بالنسبة لنا، وعبور هذا الطريق هو شرف كبير لمن يسلكه، وفي مقدمتهم الأنبياء والأولياء والصالحين؛ فحمزة كان شهيداً، وجعفر كان شهيداً، والإمام علي -عليه السلام- كان شهيداً، وعلى الدرب نفسه سار الإمام الحسين -عليه السلام- والإمام زيد ويحيى بن زيد، وكثيرون لا يمكن حصرهم.
وفي واقعنا المعاصر، سيظل قائدُ المسيرة القرآنية الشهيد الحسين بن بدر الدين الحوثي -رحمه الله- نبراساً، وعَلَمَ هُدىً لكل السالكين لهذا الدرب، وهو مدرسة تتلمذ فيها الآلافُ من الذين ضحوا بأرواحهم في الميادين المقدسة، وهو مشروع، وفكر لا يمكن أن ينطفئ أبداً.
كان بإمْكَانه -سلام الله عليه- الانزواءُ للعبادة، كما فعل الكثيرون، والمكوث في المسجد لإلقاء الدروس الدينية المتنوعة عن الطهارة، والوضوء، وأحكام النية، ولم يكن أحد سيقترب منه على الإطلاق، لكنه لم يكن من طينة هؤلاء، ولم يكن ليختار العبادة طريقاً إلى الجنة بديلاً عن الجهاد؛ فكان قدره أنه شهيد، حَيثُ سطع نوره في الظلام، ودوى صوته في زمن الصمت والخضوع؛ فكان أهلاً للشهادة، وأهلاً لتعليمنا كيف نصرخ في وجه الطغاة الفاسدين المستكبرين، وعلى رأسهم أمريكا و”إسرائيل”.
من هذه المدرسة وُلِدَ الرئيسُ الشهيد صالح علي الصماد -رحمه الله- والشهيد طه المداني، وأحمد العزي، وهاني طومر، وكثيرون لا نستطيع حصرهم، وفي كُـلّ يوم يتخرج من هذه المدرسة قادة، وأحرار، ورجال مؤمنون لا يعرفون الانكسار أَو الخضوع أَو الذل، وهي مسيرة لن تنكسر، ولن تذل، طالما وفيها القائد الحكيم السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي –يحفظه الله- الذي استطاع بحنكته وحكمته إخراجَ اليمن من محن صعبة، وقادها إلى بر الأمان، وهزم المستكبِرين في كُـلّ ميدان وواد.
هؤلاءِ هم الشهداءُ العظامُ الذين رحلوا وبقينا، رحلوا إلى عالمهم الأبدي المليء بالنعيم، والخير الوفير، تاركين بصماتِهم في ميادين الوغى شاهدةً على عظمة ما أنجزوه؛ ففي قلوبنا تعلو أصواتُ التحية والتقدير للشهداء؛ فسلامُ الله عليهم ما دامت السموات والأرض، وسلامُ الله عليهم في كُـلّ وقت وحين.