تقدم صنعاء تجربة جديدة من العمل الثوري، حيث تدخل البندقية في مجال تعزيز الثقافة المرورية. فخراب الوعي الاجتماعي، إثر أنماط حكم سلطة الوصاية سابقاً، تطلب حضور هيبة الدولة وفرضها لتطبيق القانون بالقوة، إلا أنها موضوعيا يجب أن تكون لفترة استثنائية مؤقتة حتى تترسخ لدى المواطن أهمية الالتزام بالنظام والقانون. ورغم أن الحملة تستهدف بشكل خاص سائقي السيارات والدراجات النارية، إلا أن تأثيراتها طاغية في الوعي الاجتماعي عموماً.
منذ مطلع هذا الأسبوع انتشرت قوات الضبط المرورية في عدد من جولات العاصمة صنعاء. هذه الخطوة غير المتوقعة أحدثت صدمة في الوعي الاجتماعي اليمني، خاصة بعد عدد من الحوادث في عدة محافظات كان رجل المرور فيها مستضعفاً ومعتدى عليه. الحملة هزت قناعة سلبية كانت شبه راسخة مفادها: «إن هذه البلاد لا يُمكن أن تتطور»، وأن مسار التدهور «لا يُمكن أن يتوقف»، المعبر عنه في مقولة «البلاد خاربة خاربة»، وهذه المقولة عززها النظام السابق ليصيب الشعب باليأس من التغيير وقبول واقع الظلم والاستضعاف وتبعية البلاد لدول أجنبية.
لم يكن لخطوة الضبط المروري حملة إعلامية موازية، إلا أنها كحدث غير متوقع فرض نفسه في وسائل التواصل الاجتماعي، فتم التقاط كثير من الصور من قبل المواطنين ونشرها؛ فمعظم ما نشر في وسائل التواصل الاجتماعي عن هذه الحملة كان إيجابياً، وقد نشرت الصور في الصفحات الخاصة بمرتادي وسائل التواصل، وفي بعض الصفحات العامة غير السياسية التي تحوي عشرات الآلاف من المتابعين.
بشكل عام هناك ارتياح عام من حملة الضبط المروري. وكان الغالب فيما تناولته وسائل التواصل، وأيضاً من قبل ركاب الباصات في الشوارع العامة، أن في صنعاء دولة، ولدى القيادة الثورية والوطنية مشروع بناء. وقد تجاوزت الحملة في تأثيراتها على الوعي الاجتماعي جغرافيا السيادة الوطنية، لتثبت من جديد لدى أبناء المحافظات المحتلة وشبه المحتلة أفضلية نموذج صنعاء، وصرح كثير من أبناء تلك المناطق بتمنيهم أن يكون هناك نظام وقانون في مناطقهم كما هو عليه الحال في العاصمة صنعاء.
الضبط المروري في عيون المجتمع
التعاطف الأكبر مع حملة الضبط المروري من الشباب المدنيين ممن يفترضون وجود موقف الحياد من الحرب والسياسة. ويكمن إعجابهم بحملة الضبط المروري في كونهم ممن ينجذبون إلى المظاهر المدنية والنظام والقانون، ويعانون من عقدة سلبية راسخة في أذهانهم بأن بلدهم «متخلف»، وهم في حالة عقد مقارنة دائمة ما بين «تخلف بلدهم وتحضر الآخرين». هذه الحملة استطاعت أن تزرع في أذهانهم إمكانية التطور، وأن السلطة الوطنية في صنعاء قادرة على تغيير الأوضاع نحو الأفضل انطلاقا من الخصوصيات الاجتماعية.
المثير للاهتمام أن تعاطف النساء مع هذه الحملة كان أكثر من تعاطف الرجال. ومن خلال التعليقات عبرت كثير من النساء عن فرحهن بالحملة، وعللن ذلك بأن الحملة استطاعت لأول مرة أن تلزم أصحاب «الموترات» (الدراجات النارية) بالنظام، وذكرن ما يعانين منهم من تحرشات لفظية خادشة للحياء بصورة يومية، وأحياناً جسدياً عن طريق التعرض لهن بمقود الدراجة أثناء العبور، وكذلك صعود «المترات» إلى أرصفة المشاة لمضايقة النساء.
تتزامن حملة الضبط المروري مع التقدمات في مأرب، وهو ما رسخ لدى المجتمع أن السلطة في صنعاء مكتوب لها النصر، وأن قيادة صنعاء أصحاب مشروع دولة. فكثير من أصحاب التعليقات من المحافظات المحتلة كانوا يقارنون بين واقع شوارعهم وبين حملة الضبط المروري في صنعاء، ويصرحون بتمنيهم أن يأتي هؤلاء الرجال المقنعون إلى ضبط شوارعهم. وهذه الأمنية حتى لو جاءت أحياناً في سياق المزاح والانفعال العاطفي، إلا أنها تعكس حقيقة تمني أبناء المحافظات المحتلة وشبه المحتلة أن يحررها رجال الجيش واللجان الشعبية ويثبتوا فيها النظام الأمني والاقتصادي المطبق في صنعاء.
التعليقات والردود السلبية لم تكن ضد الحملة، فمن يرون أن الحملة بالسلاح مرفوضة ويجب أن تكون بالتثقيف يمثلون 1%، أما الجوانب الأخرى عن الحملة فهي تتمثل في تحديين يشككون في إمكانية تجاوزهما، وهما: أن الحملة لن تستمر طويلاً وسوف تنتهي في أقل من شهر، مثلها مثل حملة ضبط السيارات والدراجات غير المرقمة، وأن الأمور ستعود لما كانت عليه. والأمر الآخر: افتراض أن ملاك السيارات والدراجات النارية سوف يتعودون على مظهر رجال الضبط المروري وعلى وجودهم، وسوف تتلاشى في أنفسهم هيبة رجال الضبط المروري وسيعودون للمخالفة من جديد، وافتراض أن رجال الضبط المروري سوف يتراجعون مع الأيام عن مظهرهم المهيب والنظيف وعن صرامتهم وسيتحولون إلى شخصيات ضعيفة تشبه شخصيات رجال المرور.
إجراءات أمنية مؤقتة لترسيخ ثقافة دائمة
من أجل أن تنجح المهمة على نحو أكمل فمن الضروري توسيع انتشار قوات الضبط المروري على عدد أكبر من جولات العاصمة ولوقت أطول، فمازالت حتى الآن تقتصر على بعض الجولات وعلى ساعات معينة من الصباح. وأيضاً يجب نقل التجربة إلى بقية المحافظات بعد نجاحها في العاصمة. وكذلك تبرز مهمة استمرار انتشار هذه القوات لزمن غير محدد حتى تترسخ ثقافة احترام النظام والقانون. ومن المهم أيضاً إعادة حملة ضبط السيارات والدراجات غير المرقمة بالتزامن مع هيبة قوات الضبط المروري، وإعادة تشغيل الأضواء المرورية، فإمكانية الالتزام بها في ظل وجود قوات الضبط المروري أكبر، وحتى ترتبط في ذهن المجتمع حركة السير بإشارات المرور وليس بقوات الضبط المروري ذاتها، فالوازع والدافع الثقافي الذاتي هو الأهم، وما الإجراءات الأمنية إلا مرحلة مؤقتة محفزة على الانضباط، ولا يُعقل أن تستمر إلى جانب رجل المرور وإشارة المرور على الدوام.