|
مسؤولية الدولة والمجتمع في تيسير الزواج4
بقلم/ د.حمود عبدالله الأهنومي
نشر منذ: سنتين و 11 شهراً و 18 يوماً الجمعة 03 ديسمبر-كانون الأول 2021 06:34 م
مرَّ بنا بعض مسؤوليات المجتمع في تيسير الزواج، وفي هذه الحلقة نضيف بعضا من الأمور التي يجب أو ينبغي التيسير فيها، ومنها:
5 -التيسير في جهاز البيت وأثاثه: مما عمّت به البلوى بين الناس: المبالغة الشديدة في تأثيث بيت الزوجية، واقتناء ما لا يلزم، وأحيانًا يمثل عبئًا كبيرًا في كيفية حفظه والتعامل معه، وتتحول البيوت إلى مخازن أو متاحف تعرض فيها ألوان متعددة من الأثاث الذي لا يستعمل وليس منه كبير فائدة، ويترافق مع ذلك عدد من الأمور السلبية، منها:
أولا: التكلفة الباهظة لشراء هذا الأثاث الذي تنعدم الحاجة إلى الكثير منه أو تقل، والتي ينوء عن حملها الأغنياء فضلًا عن الفقراء، وتستنزف الموارد المالية في ترفيات كان من الممكن الاستفادة منها في تأمين مستقبل هذه الأسرة.
ومعلوم أن الإسراف والتبذير من جملة الكبائر التي حذّر منها الإسلام تحذيرًا شديدًا، واعتبر أن المبذرين إخوان الشياطين، وأن مآلَ المبذِّرين إلى حسرة وندم، وهذا ما نشاهده.
والأمر الثاني: التفاخر والتباهي باقتناء هذا الكم الهائل من الأثاث مما يقطع قلوب الفقراء، وينشر الحقد والحسد فيما بينهم، ويسن سنة سيئة، ويدفع الكثير من غير المقتدرين إلى العزوف عن الزواج، وأحيانًا يكون سببًا في انهيار بعض الأسر ذات الدخل المحدود في انبهارهم بمستوى غيرهم ومحاولتهم تقليدهم، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة)، وأنه قال أيضا: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة).
والأمر الثالث: استدانة الكثيرين لتمكنهم من تغطية النفقات الباهظة لهذا الأثاث، وربما باعوا أصول معيشتهم من أجل هذه التجهيزات التي لا يترتب على فقدها كبير مضرة في حياة الزوجين. وكم دفعت أسر كثيرة أثمانًا باهظة عندما توسَّعت في شراء جهازٍ لابنتهم أو لابنهم بالدَّين، ووقعوا على شيكات وإيصالات وانتهى أمرهم إلى السجن بسبب ثلاجة من نوع معين، أو فستان عرس أو نحو ذلك.
وفي هذا المقام يجب أن نتذكر جهاز وأثاث بيت السيدة الأولى في هذه الأمة، فاطمة الزهراء رضوان الله عليها، لقد جُهِّزَ بيتها -سلام الله عليها- بخميلٍ، وقِرْبة من جِلدٍ للشُّرب، ووسادة من أدَمٍ (جلد) حشوُها ليفُ إذخَر. أما الفراش فقد كان جلدَ كبشٍ، كانا يقلِبان صوفَه فيفترشانه، وكان هذا الفراش له عددٌ من الوظائف فكانا ينامان عليه الليل، ويعلِّقان عليه الناضح في النهار، وربما عجنت على طرفه الزهراء سلام الله عليها.
وأما (موكيت) بيتِهم فلم يكن سوى رمْل من بطحاء الروحاء جاؤوا به فبسطوه في البيت، بالإضافة إلى كُوزٍ وجرَّة، ورحاءٍ، وسقاء، وكان أبوها صلى الله عليه وآله وسلم قد قبض دراهم من مهرها وأمر بأن يُشْتَرَى لها طيب.
وعُرِضَ عودٌ في جانبِ بيتِ علي -عليه السلام- ليُلْقِيَ عليه الثوبَ، ويُعَلِّقَ عليه السقاء.
هذا هو بيتُ فاطمة ‘، لتتعلم منه المرأة اليوم دروس العزة والكرامة، وكيف تُصْنَعُ السعادة والعظمة من البساطة والقناعة، وفي ذلك حلٌّ كبير لمشاكل اجتماعية جمَّة، نتجت عن الصعوبات التي وَضَعَتْهَا انحرافاتُ الوعي الاجتماعي الإسلامي اليوم، وكانت ولا زالت تهدِّد نسيجَ الأمة وتماسكها.
في هذا البيت البسيط والمتواضِع بهذا الجهاز كان يبتهِج سيدُ الأنبياء والمرسلين، وسيدُ الأوصياء والمتقين، وفيه الزهراء، سيدة نساء العالمين، وفيه وُلِدَ وتربَّى سيدا شبابِ أهلِ الجنة، وزينب الكبرى وأم كلثوم ابنتا الزهراء، وهو البيت الذي كان يمر عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فجْرَ كلِّ يومٍ لعدد من الشهور، إذا خرج لصلاة الصبح، فينادي: (الصلاة الصلاة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾[الأحزاب:33])، وهو البيت الذي لكرامة الله أمر بسد أبواب بيوت الصحابة المشرعة إلى المسجد إلا بابه.
6 -التيسير في وليمة العرس: يدخل في كثير من الولائم التباهي والتكاثر، فهذا يريد أن تكون وليمة ابنته أو ابنه أبهى وأكبر وأعظم وأغنى من وليمة ابنة فلان، وهذه تريد فستانها أحسن من فستان تلك، وهكذا يدخل الشيطان ليلعب على هذه الأوتار الجاهلية، وحري بنا أن نعود اليوم إلى وليمة النموذج الإلهي الأول للزوجين المسلمين، الصدِّيقة الزهراء والإمام علي -سلام الله عليهما- غداة زفافهما.
لقد أولم علي -عليه السلام- في عرس فاطمة تلك الوليمة، التي لا مراءاة فيها ولا مكاثرة، وظلَّت تلك الوليمة أفضلَ الولائم في نظرِ مَنْ حضرها من الصحابة، كما روي عن بنت عميس، وجابر الأنصاري.
ذهب الإمام علي -عليه السلام- ليَرْهَنَ دِرْعَه في شَطْرِ شعير، واستعدَّ بعضُ الصحابة من الأنصار للتعاون في هذه الوليمة، فقال سعد: عليَّ كبشٌ، وقال فلان: عليَّ كذا، وقال فلان: عليَّ كذا، وجمعَ له رهطٌ من الأنصار آصُعا من ذرة.
كان عماد تلك الوليمة كما في رواية عند أهل البيت عليهم السلام – الحيس، وهو طعامٌ يُتَّخَذُ من التمر، والإقط، والسمن، وقد يستعاض الإقط بالدقيق أو الفتيت، وهو طعامٌ كانت المدينة تتكفَّل بموادِّه الأساسية، كالتمر، والسمن، أو الإقط، والفتيت، والدقيق.
غير أن هناك روايات تُثْبِتُ أن هناك أصنافا أخرى في الوليمة، ومنها الزبيب، وورد أن وليمته كانت آصعا من شعير، وتمر، وحيس، ويظهر أن كبش سعد بالإضافة إلى شاةٍ أمَرَ رسولُ الله بلالا بجلبها كانا لحم هذه الوليمة، في أكثر الاحتمالات.
وحدَّدت بعضُ الروايات كمية المطعومات فيها بآصُع، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا المهاجرين والأنصار إلى وليمة ابنته، وأدخلهم دفعة دفعة، وببركته صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزةً له أكلوا وشبعوا جميعا، وإن كان كما يبدو لم يحضُرْ جميعُهم، بل حضر مَنْ كان قريبا من مكان الوليمة في بيت رسول الله؛ لأن المدينة كانت أحياؤها متوزعة بين منطقتي العالية والسافلة فيها.
وكانت هناك وليمة أيضا خاصة بالنساء خصوصا نساء الأنصار، فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آصعا من تمر وشعير لإطعام نساء الأنصار منها.
هذه الوليمة على بساطتها وانتمائها الأصيل إلى الإسلام المحمدي، وعلى الطريقة النبوية لم يَنْسَها الصحابة، ولم ينسوا أجواءها الطيبة، ورائحتها الزكية؛ فقد قال جابر: حضرنا عُرْسَ علي وفاطمة، فما رأينا عُرسا كان أطيبَ منه، حشونا البيت طِيبا، وأُتِيْنَا بتمر وزبيب فأكلنا.
وبهذا يظهر أهمية التيسير في الولائم، واعتماد الأطعمة المتوفِّرة، مما يوفر موادَّها بلدُ العُرْس نفسه، كما يظهر أهمية التعاون بين المسلمين وإعانة بعضهم بعضا في مثل هذه المناسبات الاجتماعية.
وللموضوع بقية في المقالة القادمة إن شاء الله |
|
|