قد لا يستوعب البعض خطورة وآثار بقاء صلاحيات مؤسسات سلطات الدولة من أعلاها إلى أدناها مفتوحة ومطلقة حسب الموروث السيئ الذي نتوارثه والذي تتجسد أبرز مظاهره في ممارسات بعض من ورثوا سلطات الحاكم الفرد معتقدين أن هذا الموقع يخول لمن يصل إليه التدخل في كل شيء يدعمه لقب صاحب الفخامة ، لهذا كان الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي محقاً حين بدأ حياته السياسية في هذا الموقع بإنزال الصور من على رؤوس الموظفين في المكاتب واستبدلها بعبارة (الله جل جلاله) ليس للادعاء أنه يمثل الدين وإنما لتذكير نفسه والعاملين في السلطة بأنهم خدام للشعب وليسوا حكاماً عليه ولكي يشعر الشعب أن السلطة ملكه وليست ملك من يتولاها ، وكأن الشهيد الحمدي بذلك قد استشعر بأن مشروعه الوطني سوف لن يدوم كثيرا في حساب الزمن ، ولكنه سيخلد بأعماله مهما كانت الخيانات ومحاولات طمس ذكراه العطرة ، وأياً كانت خلفيات من قفزوا إلى السلطة بعده من الخونة عديمي الضمير ، أو من ناقصي المعرفة والخبرة في الحياة السياسية والإدارية فالقاسم المشترك بينهم استباحتهم هذا الموقع وكل المواقع العليا دون تدرج وعلى حين غفلة من الزمن وإمكانياتهم الباهتة التي لا تعتمد سوى على العنف لذلك لم يتمكنوا من ردم الهوة بين ذواتهم والموقع الذي وصلوا إليه، ولكنهم فقط توارثوا من خلاله مرض الاستبداد والتسلط ناهيك عما تضيفه الطبائع الشخصية للورثة، وعلى سبيل المثال فقد امتدت صلاحيات الرئيس وفق ذلك إلى حد تدخله المباشر في تعيين أشخاص في درجات وظيفية أدنى من المدير العام ، إلى أن أصبح هذا السلوك محل تندر شعبي عبرت عنه ذات يوم نكتة تقول : أن أحد رؤساء الوزراء يرحمه الله في زيارة لوالدته في القرية خاطبها بقوله : أنقل إليك تحيات الرئيس القائد، هذه الآلية والهيمنة الكاملة للرئيس على النظام السياسي والتنفيذي والإداري في هذا البلد المحكوم بالعشوائية كافية للبرهنة على فشله ويمكننا التأكد من ذلك من خلال ما نشهده ونعايشه ونعانيه من آثار ممارسات جزء كبير منها ونقول جزء كي لا نقع في مصيدة الأحكام المطلقة أخت الصلاحيات المطلقة ونبقى حبيسي رمي كل أخطائنا على الماضي أو على غيرنا فمن يتولى السلطة أي سلطة عليه فقط أن يعمل ما في وسعه وأن يترك للتاريخ وللمؤرخين واجب التقييم إذ أن من غير الجائز على أي حال وفي أي قضية أن يكون من حق من يمارس السلطة أن يكون خصما وحكما في نفس الوقت وأن يجند وسائل الإعلام الرسمية للحديث عن منجزاته مقابل ما ينفق عليها من خزينة الدولة، وبالمناسبة إمكانيات أجهزة الإعلام شحيحة ولكنني أتحدث عن محاولة استغلالها من بعض المستبدين وكأنهم ينفقون عليها من مالهم الخاص، وهذا ضرب من ضروب الفساد والتبجح ومن المؤسف أن بعض الهيئات والمؤسسات أصبحت تركز كثيرا على تخصيص جزء من ميزانيتها على تجنيد أدوات النفاق للحديث عن منجزاتها وتنسب ما يقوم به جنود مجهولون مضطهدون في تلك الهيئات والمؤسسات لعبقرية رؤسائها.
ومن الضروري عدم استمرار التلاعب بالتاريخ لأن ذلك لا يمكننا من الاستفادة من إيجابيات الماضي وتجاوز أخطائه وسلبياته والاعتماد على الإعلام الموجه في ستر عيوب الحكام ومحاولة تغطية أخطائهم وخطاياهم بغربال الكذب والتضليل فهذا هو أكبر العيوب، وتركيز السلطة في يد المسؤول الأول هو أكثر الأخطاء فداحة ومن أكثر السلبيات التي ما تزال تهيمن على حياتنا السياسية بل والدينية والأخلاقية وكل تفاصيل حياتنا ما بالنا إن كان عديم الكفاءة فالمسؤول الأول في أي مؤسسة حكومية أو بالأحرى في أي جهة يتصرف في الجهة التي يرأسها تصرف الملاّك لأننا ما زلنا بعيدين عن نظام دولة المؤسسات بما ورثناه من صلاحيات مطلقة سرعان ما يسبغ على الجهة التي يعين بها صبغته الشخصية في الأشهر بل وأحيانا في الأيام الأولى لتعيينه ضاربا عرض الحائط بمبدأ تراكم الخبرات وما يؤدي إليه من استفادة من إيجابيات من سبق وتحاشي عثراته وسلبياته وهكذا نبقى حبيسي التسلط ، ورهن إشارة الفرد المتسلط ندور حيث يدور في حلقة مفرغة، تطحننا دوامة الصراع على السلطة التي يعاني منها كل أبناء الشعب وبخاصة من تمسهم هذه السياسات مباشرة، وهم الأغلبية بمن فيهم المتسلطون الذين لا اعتقد أنهم يستفيدون كثيرا من سلوكهم الاستبدادي فمرض التسلط يدفع بهم وبالمجتمع على أيديهم إلى الهاوية، فهل ندرك خطورة هذا السلوك؟
إذاً فالتجارب لمن يريد الاستفادة منها تؤكد أن البداية الجادة لمكافحة ومحاربة الفساد وضبط سلوك الموظف العام ومنهم الرؤساء إنما تكون بحسن اختيار المسؤولين وتحديد صلاحياتهم وكذا رئيس الوزراء والوزراء وكل موظفي الدولة بدقة وإلزامهم بالتقيد بها وعدم تعدي المسؤول الأعلى على صلاحيات الأدنى والتأكد بأن توزيع الصلاحيات والاختصاصات يترتب عليها مسؤوليات تكبر وتصغر بحجم موقع صاحبها في السلطة أي أن المواقع العليا ليست مزايا شخصية، واحترام مبدأ سيادة القانون وتحديد الصلاحيات معناه التوازن بين السلطة والمسؤولية وأن: (الصلاحيات المطلقة مفسدة مطلقة ) والسلام.
نحطمُ للشعب أحلامه * وندعوه بالفارس المعتبر